عن تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُو خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ" (البقرة 183-185) والذي يعطيه التدبر في آيات الكتاب أمر آخر فإن الآيات الناطقة بنزول القرآن في شهر رمضان أو في ليلة منه إنما عبرت عن ذلك بلفظ الانزال الدال على الدفعة دون التنزيل كقوله تعالى: " شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى" (البقرة 185) وقوله تعالى: "حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ" (الدخان 1 - 3)، و قوله تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" (القدر 1)، واعتبار الدفعة أما بلحاظ اعتبار المجموع في الكتاب أو البعض النازل منه كقوله تعالى: "كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ " (يونس 24)، فإن المطر إنما ينزل تدريجا لكن النظر هيهنا معطوف إلى اخذه مجموعا واحدا، ولذلك عبر عنه بالانزال دون التنزيل، وكقوله تعالى: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ " (ص: 29)، وإما لكون الكتاب ذا حقيقة أخرى وراء ما نفهمه بالفهم العادي الذي يقضى فيه بالتفرق والتفصيل والانبساط والتدريج هو المصحح لكونه واحدا غير تدريجي ونازلا بالانزال دون التنزيل. وهذا الاحتمال الثاني هو اللائح من الآيات الكريمة كقوله تعالى: "الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ " (هود 1)، فإن هذا الاحكام مقابل التفصيل، والتفصيل هو جعله فصلا فصلا وقطعة قطعة فالأحكام كونه بحيث لا يتفصل فيه جزء من جزء ولا يتميز بعض من بعض لرجوعه إلى معنى واحد لا أجزاء ولا فصول فيه، والآية ناطقة بأن هذا التفصيل المشاهد في القرآن إنما طرء عليه بعد كونه محكما غير مفصل. وأوضح منه قوله تعالى: "وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ" (الأعراف: 52-53)، وقوله تعالى: "قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ" (يونس 34 - 39) فإن الآيات الشريفة وخاصة ما في سورة يونس ظاهرة الدلالة على إن التفصيل أمر طار على الكتاب فنفس الكتاب شيء والتفصيل الذي يعرضه شيء آخر، وأنهم إنما كذبوا بالتفصيل من الكتاب لكونهم ناسين لشيء يؤل إليه هذا التفصيل وغافلين عنه، وسيظهر لهم يوم القيامة ويضطرون إلى علمه فلا ينفعهم الندم ولات حين مناص وفيها إشعار بأن أصل الكتاب تأويل تفصيل الكتاب.
ويستطرد العلامة السيد الطباطبائي قائلا: وأوضح منه قوله تعالى: "حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الزخرف 1 - 4). فإنه ظاهر في إن هناك كتابا مبينا عرض عليه جعله مقروا عربيا، وإنما ألبس لباس القراءة والعربية ليعقله الناس وإلا فإنه ـ وهو في أم الكتاب ـ عند الله، علي لا يصعد إليه العقول، حكيم لا يوجد فيه فصل وفصل وفي الآية تعريف للكتاب المبين وأنه أصل القرآن العربي المبين وفي هذا المساق أيضا قوله تعالى: "فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ " (الواقعة 75-77)، فإنه ظاهر في أن للقرآن موقعا هو في الكتاب المكنون لا يمسه هناك أحد إلا المطهرون من عباد الله وإن التنزيل بعده، وأما قبل التنزيل فله موقع في كتاب مكنون عن الاغيار وهو الذي عبر عنه في آيات الزخرف، بأم الكتاب وفي سورة البروج، باللوح المحفوظ، حيث قال تعالى: "بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ" (البروج 21-22)، وهذا اللوح إنما كان محفوظا لحفظه من ورود التغير عليه، ومن المعلوم إن القرآن المنزل تدريجا لا يخلو عن ناسخ ومنسوخ وعن التدريج الذي هو نحو من التبدل، فالكتاب المبين الذي هو اصل القرآن وحكمه الخالي عن التفصيل أمر وراء هذا المنزل، وإنما هذا بمنزله اللباس لذاك. ثم إن هذا المعنى اعني: كون القرآن في مرتبة التنزيل بالنسبة إلى الكتاب المبين ـ ونحن نسميه بحقيقة الكتاب ـ بمنزلة اللباس من المتلبس وبمنزلة المثال من الحقيقة وبمنزلة المثل من الغرض المقصود بالكلام هو المصحح لان يطلق القرآن أحيانا على أصل الكتاب كما في قوله تعالى: " بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ" (البروج 21-22)، إلى غير ذلك وهذا الذي ذكرنا هو الموجب لان يحمل قوله: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وقوله: إنا أنزلناه في ليلة مباركة، وقوله: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ" (القدر 1)، على إنزال حقيقة الكتاب والكتاب المبين إلى قلب رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم)دفعة كما أنزل القرآن المفصل على قلبه تدريجا في مدة الدعوة النبوية.
وهذا هو الذي يلوح من نحو قوله تعالى: "وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ " (طه: 114)، وقوله تعالى: "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" (القيامة: 16 - 19)، فإن الآيات ظاهره في إن رسول الله(صلى الله عليه واله وسلم)كان له علم بما سينزل عليه فنهى عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي، وسيأتي توضيحه في المقام اللائق به ـ إنشاء الله تعالى ـ. وبالجملة فإن المتدبر في الآيات القرآنية لا يجد مناصا عن الاعتراف بدلالتها: على كون هذا القرآن المنزل على النبي تدريجا متكئا على حقيقة متعالية عن أن تدركها أبصار العقول العامة أو تناولها أيدى الافكار المتلوثة بألواث الهوسات وقذارات المادة، وأن تلك الحقيقة أنزلت على النبي إنزالا فعلمه الله بذلك حقيقة ما عناه بكتابه، وسيجيء بعض من الكلام المتعلق بهذا المعنى في البحث عن التأويل والتنزيل في قوله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ" (آل عمران 7). فهذا ما يهدي إليه التدبر ويدل عليه الآيات، نعم أرباب الحديث، والغالب من المتكلمين والحسيون من باحثي هذا العصر لما أنكروا اصالة ما وراء المادة المحسوسة اضطروا إلى حمل هذه الآيات ونظائرها كالدالة على كون القرآن هدى ورحمة ونورا وروحا ومواقع النجوم وكتابا مبينا، وفي لوح محفوظ، ونازلا من عند الله، وفي صحف مطهره إلى غير ذلك من الحقائق على أقسام الاستعارة والمجاز فعاد بذلك القرآن شعرا منثورا. ولبعض الباحثين كلام في معنى نزول القرآن في شهر رمضان: قال ما محصله: إنه لا ريب أن بعثة النبي صلى الله عليه واله وسلم كان مقارنا لنزول أول ما نزل من القرآن وأمره صلى الله عليه واله وسلم بالتبليغ والانذار، ولا ريب أن هذه الواقعة إنما وقعت بالليل لقوله تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ" (الدخان 3)، ولا ريب أن الليلة كانت من ليالي شهر رمضان لقوله تعالى: "شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ" (البقرة 185).
ويستمر العلامة الطباطبائي في سرده ليلة القدر وعلاقتها بشهر رمضان قائلا: وجملة القرآن وإن لم تنزل في تلك الليلة لكن لما نزلت سورة الحمد فيها، وهي تشتمل على جمل معارف القرآن فكان كأن القرآن نزل فيها جميعا فصح ان يقال: أنزلناه في ليلة (على ان القرآن يطلق على البعض كما يطلق على الكل بل يطلق القرآن على سائر الكتب السماوية أيضا كالتوراة والانجيل والزبور باصطلاح القرآن) قال: وذلك: أن أول ما نزل من القرآن قوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ" (العلق 1) إلخ، نزل ليلة الخامس والعشرين من شهر رمضان، نزل والنبي صلى الله عليه واله وسلم قاصد دار خديجة في وسط الوادي يشاهد جبرائيل فأوحى إليه: قوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" (العلق 1) الخ، ولما تلقى الوحي خطر بباله أن يسأله: كيف يذكر اسم ربه فتراءى له وعلمه بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين" إلى آخر سورة الحمد، ثم علمه كيفية الصلوة ثم غاب عن نظره فصحا النبي صلى الله عليه واله وسلم ولم يجد مما كان يشاهده أثرا إلا ما كان عليه من التعب الذي عرضه من ضغطة جبرائيل حين الوحي فأخذ في طريقه وهو لا يعلم أنه رسول من الله إلى الناس، مأمور بهدايتهم ثم لما دخل البيت نام ليلته من شدة التعب فعاد إليه ملك الوحي صبيحة تلك الليلة وأوحى إليه قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ" (المدثر 1-2). قال: فهذا هو معنى نزول القرآن في شهر رمضان ومصادفة بعثته لليلة القدر: وأما ما يوجد في بعض كتب الشيعة من أن البعثة كانت يوم السابع والعشرين من شهر رجب فهذه الاخبار على كونها لا توجد إلا في بعض كتب الشيعة التي لا يسبق تاريخ تأليفها أوائل القرن الرابع من الهجرة مخالفة للكتاب كما عرفت. قال: وهناك روايات أخرى في تأييد هذه الاخبار تدل على أن معنى نزول القرآن في شهر رمضان: أنه نزل فيه قبل بعثة النبي من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور وأملاه جبرائيل هناك على الملائكة حتى ينزل بعد البعثة على رسول الله، وهذه أوهام خرافية دست في الاخبار مردودة أولا بمخالفة الكتاب، وثانيا أن مراد القرآن باللوح المحفوظ هو عالم الطبيعة وبالبيت المعمور هو كرة الأرض لعمرانه بسكون الانسان فيه، انتهى ملخصا.
|