الجاهليّة الأولى لم تكن جاهليّة ثقافة وأدب وإنّما كانت جاهليّة قِيَم، ففي مجال اللغة كان المجتمع يملك ثقافة لغويّة ممتازة، وفي مجال العمارة كان التطور المعماري - في غير البيئات الصحراوية - واضحاً ولا تزال بعض معالمه واقفة تبهر العيون، كما كان لهم طبّ تقليديّ، وهكذا كانت لهم لمسات في مختلف مناحي الحياة تتناسب مع ظروفهم وعلومهم..
لذا لم يُعِب عليهم القرآن الكريم شيئا من ذلك إنّما عاب عليهم في ثلاثة مجالات: العقائد والطقوس الدينية، والقِيَم، والتشريعات القانونية، فمثلاً:
1- ممّا عابه عليهم في مجال العقائد عبادتهم للأوثان، قال تعالى: (إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكاً).
2- وممّا عابه عليهم في مجال القِيَم قتلهم البنات، قال تعالى: (وإذا الموءودة سُئلت * بِأيّ ذنب قُتلت)، وأيضا تبرّج نسائهم وعدم احتشامهنّ، قال تعالى: (ولا تبرّجنَ تبرّج الجاهليّة الأولى).
3- وممّا عابه عليهم في مجال التشريع إباحة الربا مع ما فيه من ظلم وقَهر للطبقة الفقيرة، قال تعالى: (قالوا إنّما البيع مثل الربا وأحلّ الله البيع وحرّم الربا)..
هذه مجرّد أمثلة نستوحي منها أنّ أزمتهم لم تكن أزمة ثقافة وأدب وعلم بقدر ما هي أزمة عقائد وقِيَم وتشريعات ولا يخفى أنّ هذه الثلاثة في الواقع متداخلة فيما بينها..
ونحن إذا نظرنا إلى عالم اليوم نجد أنّ الفوضى قد أخذت نصيبها الوافر من هذه الثلاثة جميعاً، فمثلاً:
1- في مجال القيم: يكفيك أن تَمرّ مروراً سريعاً على ما يتم تداوله في المدارس والمجتمعاات الغربية حول مواضيع من قبيل: الجندر، والشذوذ، فضلا عن الخلاعة التي صارت أمراً معتاداً بل حقاً من حقوق الفتيان والفتيات، كما يكفيك للوقوف على مدى انحطاط القيم أن تلقي نظرة عابرة على أخبار سياسات الحصار والتجويع والحروب والإبادات التي يرتكبها في الغالب الغرب وأذرعه في الشرق بقلوب باردة، وكلّ ذلك يتمّ تحت عباءة مجموعة من المفاهيم الليبرالية التي في ظاهرها تكون ذات مسوح إنسانية وفي واقعها ليست سوى سياسات نفعية في إطار تعزيز الهيمنة الغربية.
2- وفي مجال التشريعات يكفيك أن تقف على بعض القوانين الغربية فيما يخص عناوين من قبيل: الإجهاض، الخمر والمخدرات، الشذوذ، منع الحجاب، وغيرها الكثير..
3- وأمّا في مجال العقيدة فلا يزال الغالبية العظمى من سكان الكرة الأرضية وإن كانوا يؤمنون بوجود إله ولكن في الغالب لا يختلف هذا الإله كثيراً عن أصنام قريش التي لا يقصدونها إلّا يوماً في الأسبوع أو كلّما اقتضت الحاجة، ولا دخل لها في قيمهم وتشريعاتهم وسائر شؤون حياتهم...
والخلاصة أنّ الجاهليّة في القرآن الكريم ليست جاهليّة علم وتطوّر بل هي جاهليّة عقائد وقِيَم وتشريعات وبالتالي يمكن أن تجتمع مع العلم والتطور وهما في ذروتهما، فليست الجاهلية نقطة تاريخية غادرها الإنسان بلا رجعة بسبب التطور العلميّ، بل هي حالة موضوعيّة يتلبّس بها المجتمع متى ما توفّرت مقوّماتها والعلم إن لم يكن محايداً من جهتها فهو في الغالب قابل للتوظيف في صالحها بمقدار قابليته للتوظيف ضدّها.
|