على نحو مغاير لما تألفه المجتمعات، يأتي الأنبياء عادة بأطروحات تنسجم مع أصول الفطرة الإنسانية والسجية الربانية لتفجر ثورة على الواقع المعاش، تداوي أسقامه الفردية فضلا عن الجماعية منها لاسيما تلك التي تخلق الفوارق الطبقية والفوالق القبلية والعشائرية والتي لطالما زلزلت أمن واستقرار سكان أرض الحجاز.
ولعل واحدة من أهم الطروحات النبوية المحمدية التي أرخت بسنا ضيائها على السواحل الصخرية للجاهلية الأولى لتحيلها إلى سهل ممرع مخضر بأمواج اللطف الإلهي، هي أطروحة المؤاخاة بين المسلمين والتي فاقت كل أنواع الأخوة النسبية والسببية!
في الثاني عشر من شهر رمضان المبارك للسنة الأولى من الهجرة النبوية بدأت تتضح أولى ملامح الحضارة الإسلامية بتشريع عبقري يرسخ مبادئ العبودية لله سبحانه من جهة ويؤسس بناء مجتمع قوي متماسك من جهة اخرى!
"تآخوا في الله أخوين أخوين"
دعوة نبوية صادقة استقرت في قلوب المؤمنين لتثمر بذلا عجيبا لم يألف التاريخ البشري له نظيرا
والذي وصل إلى حد قبول توريث أناس أغراب ليس بينهم رابطة سوى رابطة الدين! فكيف للإنسان الذي يصفه الحق سبحانه (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) أن يتخلى عن صفاته الذاتية المكرسة للأنانية والشح بمفهومها الكلي ليدخل مجتمعا بأكمله في دائرة الاستثناء الذين وصفتهم الآية الكريمة" إلا المصلين"؟!
إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ سورة المعارج
يمكن تفسير هذه الحالة النادرة من خلال عدة أوجه.
الوجه الأول هو أن النبي صل الله عليه وآله قد برع في نبوته وإنسانيته إلى الحد الذي جعل المسلمين في تلك الحقبة يتخلون عن مسمى الانتماء الفئوي والقبلي في مقابل انتماء واحد وهو الدين الإسلامي فصار الإسلام هو خيمة العشيرة التي تسع كل من ينضوي تحت ظلالها
الوجه الثاني هو عظم المآسي والكرب التي عانى منها المجتمع الجاهلي ولم يبرأ منها إلا ببلسم المعالجات المحمدية وما امتازت به شخصيته النبوية من خلق ذكي يستحوذ على مجامع العقول والقلوب الضالة ليهيدها إلى سواء السبيل.
الوجه الثالث حالة العرفان والشكر التي عبر عنها المسلمون لمن أخرجهم من ظلمات التناحر والفرقة والتشتت إلى نور الوحدانية العقائدية والوحدة المجتمعية، وذلك عبر تلبيتهم لنداء النبي صل الله عليه وآله ودعوته للتآخي.
أما الوجه الرابع فهو قاعدة اللطف التي تشمل المسلمين من ذوي النوايا الحسنة والاستعداد الفطري الإيجابي ليصبحوا قابلين للفيوضات الإلهية التي تمدهم بوافر من الاستعداد والرغبة والإرادة لإنفاذ أمر الله وأمر رسوله من دون أن يجدوا في أنفسهم مرضا.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ الانفال 24
إذًا وجود القائد الإنساني الحكيم المستوعب لمشكلات مجتمعه، ووجود الثلة المؤمنة المنسجمة مع إرادة القائد يحقق شرط استحقاق المدد والعون الإلهي!
فكانت الثمرة مجتمعا إسلاميا متماسكا متناميا ومزدهرا نابعا من خلوص النية ورسوخ الإيمان واستقامة العقيدة، مما يحقق أهداف التشريع الإسلامي المتميز
أما مقاصده فتتضح عند النظر إلى المؤاخاة على أنها مصداقا لقوله سبحانه ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ (101)
فهذا الوجود الحقيقي في الآخرة لا بد له من مرجع فعلي في الحياة الدنيا تذوب فيه الاختلافات الطبعية من أنانية وبخل وحرص وخوف، والطبيعية ما بين قوة وضعف وعلم وجهل وغنى وفقر.
فأضحى اختلاف الموارد وتنوع الإمكانيات أساسا لمجتمع مدني متحضر في ظل قانون ودستور سماوي يحسن إدارة وتوجه هذا التنوع والتغاير.
فالقوي عون للضعيف، والغني سند للفقير، والعالم سبيل نجاة للجاهل وهكذا؛ كل يعطي بمقدار سعته.
متكاتفين متحابين يدورون في مدار من بعث رحمة للعالمين، غايتهم رضا الحق سبحانه وشفاعة رسوله، "فلا يؤمن احدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"
و" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"
فشرط الإيمان نبذ الأنانية والمؤمن الحقيقي هو من يستشعر معاناة إخوانه ويشاركهم هموهم ومشكلاتهم
فخيمة الإسلام تكفل لساكنيها، مؤنة الغربة والفاقة، كما ضمنتها للمهاجرين وفي الوقت ذاته محكا لاختبار صدق النوايا وغربلة الايمان، وقد اجتاز الأنصار ذلك الاختبار بحول من الله وقوة إثباتا لصدقهم وإخلاصهم.
هكذا كان رسول الله يربي أصحابه ليصفهم الحق
سبحانه بأنهم صف كبنيان مرصوص يشد بعضه بعضا.
يقول المستشرق هيل في كتابه (حضارة العرب): " لقد أخرج محمد للوجود أمة، ومكن لعبادة الله في الأرض، ووضع أسس العدالة والمساواة الاجتماعية، وأحل النظام والتناسق والطاعة والعزة في أقوام لا تعرف غير الفوضى.!
|