جاء في کتاب ليلة عاشوراء في الحديث والأدب للشيخ عبد الله الحسن: عن خطبة الامام الحسين عليه السلام: ومما أشار إليه عليه السلام في خطبته هو أنه يرى الحياةَ مع الظالمين برماً، ولِذا وَقف موقفاً صارماً وحازماً من بيعة يزيد بن معاوية. وحيث أن الإمام الحسين عليه السلام إمامٌ معصومٌ مفترضُ الطاعة فيجب على الأمة الانقياد إليه والائتمار بأمره، فما رآه عليه السلام ودعا إليه فهو الحق وما رفضه ونهىٰ عنه فهو الباطل، فلما رأىٰ عليه السلام بأن وظيفته وتكليفه يحتمان عليه السير في إصلاح ما فسد في الأمة، ليحق الحق ويبطل الباطل سار علىٰ ذلك وإن انتهى به الأمر إلى الشهادة، وله بهذا أسوةٌ بالأنبياء عليهم السلام الذين واجهوا الصعاب في سبيل الله تعالىٰ، حتى أُوذوا وشُرِّدوا ونُفوا عن أوطانهم، ومنهُم من تَعرَّض للقتل ونُشر بالمنشار، ومنهم من قُطع رأسُه في سبيله تعالىٰ كيحيىٰ بن زكريا عليه السلام وأُهدي رأسُه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. واختار يحيىٰ أن يُطاف برأسه * وله التأسي بالحسين يكونُ. ومنهم من أرادوا إحراقه بالنار لولا أن نجاه اللهُ كإبراهيم الخليل عليه السلام الذيِ سار علىٰ ضَوءِ ما يُمليِه عليه الواجب الديني، فَكسّرَ أصنام المشركين فكانت النتيجة تعرضه للقتل "قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ" (الأنبياء 68) وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام وَلم يَمنعهم كلُ ذلك من السعي قُدماً تجاه وظائفهم الشرعية من أجل إصلاح الأمة، ودعوتهم إلى الله تعالىٰ وإن أدىٰ ذلك إلى الشهادة. فكذلك الحسين عليه السلام الذي لا يثنيه عن عزيمته أمرٌ ولا يلويه أحدٌ عن موقفه الديني، سار حسبما أملاه عليه الواجب الشرعي والديني وإن تعرض هو مع أهل بيته للتشريد والقتل والإبادة ما دام ذلك بنظر الله وأمره تعالى. حينما اعترضه أحدهم يريد أن يثنيه عن عزمه، قائلاً له: إني أُذكركَ اللهَ في نفسك فإني أشهد لئن قاتلت لتُقتلنّ. فقال له الحسين عليه السلام أفبالموت تخوفني، وهل يَعدو بكمُ الخطبُ أن تَقتلوني، وسأقول ما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرةَ رسول الله صلى الله عليه وآله: سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتىٰ * إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً وواسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبوراً وخالف مُجرماً فإن عشت لم أندم وإن متُ لم اُلَمْ * كفىٰ بك ذُلاً أن تعيش وتُرغما. وفي رواية أنه لما أكثروا عليه في ذلك قرأ عليه السلام بعد الأبيات المذكورة هذه الآية الشريفة: "وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا" (الأحزاب 38). وفي رواية قال عليه السلام بعد الشعر: لَيسَ شَأني شأَنَ مَنْ يَخافُ الموتَ، ما أهوَنَ الموت علىٰ سبيل نَيْلِ العزِّ وإحياءِ الحقِّ، ليسَ الموتُ علىٰ سبيلِ العزِّ إلا حياةً خالدةً، وليستِ الحياةُ مَعَ الذُّلِّ إلاَّ المَوتَ الَّذي لا حَياةَ مَعَهُ، أفَبالمَوتِ تُخوّفُني، هيهاتَ طاشَ سهْمُكَ وَخاب ظَنّك لستُ أخافُ الموتَ، إنَّ نَفْسي لا بْكرٍ وَهِمَّتي لأَعلىٰ مِنْ أن أحمِل الضَّيم خَوفاً مِنَ الموتِ، وهل تقدرُون علىٰ أكثر من قتلي ؟! مرحباً بالقتل في سبيلِ اللهِ، ولكنَّكُم لا تقدرُون علىٰ هَدم مَجدي ومَحو عزّي وَشرَفي فإذاً لا اُبالي بالقتل.
وعن البعد الديني في موقف أصحابه عليه السلام يقول الشيخ عبد الله الحسن: وإذا ما تتبّعنا الدوافع التي دفعت بأنصار الحسين عليه السلام للوقوف إلىٰ جانبه ونصرته إلىٰ آخر رمق في حياتهم، وجدناها دوافع انبثقت من الشعور بالمسؤولية الشرعية، والتي تأخذ بأعناقهم جميعاً وتلزمهم بالتضحية معه مهما كلفهم الأمر. وقد أفصحت مواقفهم في هذه الليلة عن نواياهم الصادقة النبيلة، وعلىٰ طهارة نفوسهم فارتقوا بذلك إلىٰ أرقى الكمالات النفسية، إذ لم يمازح أهدافهم تلك أيُ نوعٍ من الأهداف الشخصيةِ، أو المنافع المادية، أو المطامع الدنيوية، أو حُبُ الجاه والشهرة. بل كانت غايتهم رضى الله تعالىٰ ونصر الرسول صلى الله عليه وآلهوسلمفي شَخص الحسين عليه السلام فأصبحوا مصداقاً لقوله تعالىٰ: "إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا" (الكهف 13-14). وإذا أمعنا النظر في أفعالهم وأقوالهم في هذه الليلة، وجدناها تُفصحُ عن دوافعهم الإيمانية وشعورهم بالمسؤولية الشرعية التي لا مناص من الالتزام بها.
وعن الرضا والتسليم لله تعالىٰ يقول الشيخ الحسن في كتابه: وهو: ترك الاعتراض والسخط باطناً وظاهراً، وَقولاً وَفعلاً، وهو: من ثمراتِ المحبة ولوازمها، إذ المُحب يَستحسنُ كُلمَا يصدر عن محبوبه، وصاحبُ الرضا يستوي عندَهُ الفقرُ والغنىٰ، والراحةُ والعناء، والعزُ والذل، والصحةُ والمرض، والموتُ والحياة، ولا يُرجحُ بعضَها على بعض، ولا يثقلُ شيءُ منها علىٰ طَبعه، إذ يرىٰ صُدورَ الكل من الله سبحانه، وقد رسخ حُبه في قلبه، بحيث يُحب افعالَه، ويَرجُح علىٰ مُراده مُرادُه تعالىٰ، فيرضىٰ لكل ما يكون ويرد. وروي: أن واحداً من أرباب الرضا عمَّر سبعين سنةً، ولم يَقل في هذه المُدة لشيءٍ كان: ليتَهُ لم يكن، ولا لشيء لم يكن: ليته كان. وقيل لبعضهم: ما وجَدتَ من آثار الرضا في نفسك؟ فقال: ما فيَّ رائحةٌ من الرضا ومع ذلك لو جعلني اللهُ جسراً علىٰ جهنَّم، وعبرَ عليه الأولون والآخرون من الخلائق ودخلوا الجنة، ثم يلقوني في النار، وملأ بي جهنَّم، لأحببت ذلك من حُكمه، ورضيتُ به من قسمه، ولم يختلج ببالي أنه لِمَ كان كذا، وليت لم يكن كذا، ولِمَ هذا حظي وذاك حظهم. وصاحبُ الرضا أبداً في رَوحٍ وراحةٍ، وسُرورٍ وبهجةٍ، لأنهُ يشاهدُ كلَ شيءٍ بعين الرضا، وينظرُ في كلِ شيء إلىٰ نور الرحمة الإلهية، وسر الحكمة الأزلية، فكأن كلَ شيء حصل علىٰ وفق مُراده وهواه. وفائدةُ الرضا، عاجلاً، فراغُ القلبِ للعبادة والراحة من الهموم، وآجلاً، رضوان الله والنجاة من غضبه تعالىٰ. والرضا بالقضاء أفضل مقاماتِ الدين، وأشرف منازل المقربين، وهو بابُ الله الأعظم، ومن دخلهُ دخلَ الجنة، قال الله سبحانه: "رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ" (المائدة 122). وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه سأل طائفةً من أصحابه: ما أنتم؟ فقالوا: مؤمنون. فقال: ما علامةُ إيمانكم ؟ فقالوا: نَصبرُ على البلاءِ، ونشكُر عند الرخاء، ونرضىٰ بمواقع القضاء. فقال: مؤمنون ورب الكعبة. وقال صلى الله عليه وآله: إذا أحب الله عبداً ابتلاه، فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه. وكيف لا تطمئن نفسه وهو ينظرُ إلى في كل شيء بنور الرحمة الإلهية، ولذا اختص بنداءٍ خاص [٢] بقوله تعالىٰ: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ" (الفجر 27-28) واختص برضاه عن ربّه ورضاه عنه بقوله: "رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً" (الفجر 28)، واختص بعبودية خاصة وجنة خاصة منسوبة إلى الله بقوله: "فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي" (الفجر 30). ومن كلمات الرضا التي ظهرت في كلماته الشريفة في هذه الليلة قوله عليه السلام في ضمن أبيات أنشدها مراراً: وإنما الأمر إلى الجليل * وكلُ حيٍّ سالكٌ سبيلي. قالها بكل ثقة واطمئنان مذكّراً بأنّ هذا سبيل كلّ إنسان، وأن الأمر ينتهي إليه تعالى فلا رادَّ لقضائه ولا دافعَ لحكمته عزّوجّل. روي عن دارم بن فرقد قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إقرءوا سورة الفجر في فرائضكم ونوافلكم، فإنها سورة الحسين بن علي عليهماالسلام وارغبوا فيها رحمكم الله تعالى، فقال له أبو اُسامة وكان حاضرَ المجلس: وكيف صارت هذه السورة للحسين عليه السلام خاصّة ؟ فقال: ألا تسمع إلى قوله تعالى "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ" (الفجر 27) الآية، إنّما يعني الحسين بن علي عليهماالسلام فهو ذو النّفس المطمئنّة الرّاضية المرضيّة، وأصحابه من آل محمد صلى الله عليه وآله هم الراضون عن الله يوم القيامة، وهو راض عنهم. بحار الأنوار: ج 44، ص 218.
|