
إن إدراك حقيقة الحسين(عليه السلام) وحقيقة أصحابه وحقيقة كربلاء، أمرٌ يكاد يكون مستحيلا، بل لا أظننا ندرك حقيقة اصغر فرد من أصحابه، ولكننا نحاول الوصول الى حدود تلك النهضة وبعض ابعادها، التي ضحى من أجل تحقيقها بنفسه (عليه السلام) وبأهل بيته وأصحابه، الذين وصفهم بأنهم خير الأصحاب، حيث روي عنه قوله: " فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا"( 1).
فحسبنا أننا نقرأ قضية مرتبطة بالسماء، وأن ما بأيدينا هي أدوات بشرية، ومن المؤكد أنها قاصرة عن إدراك كنه القضايا المرتبطة بالله سبحانه وتعالى، كما هو الحال من عدم احاطة العقل البشري بالغيب الا من خلال النقل او الأمور المحسوسة، التي نعتمد عليها للوصول الى الحقائق، ولا شك أن قضية الامام الحسين(عليه السلام) هي سماوية بكل أجزائها وتفاصيلها وأبعادها، الا ان ذلك لا يمنع من المحاولة للاقتراب من بعض تلك الأبعاد، التي سنقف عليها وعلى النحو الآتي:
الأول: البعد الديني
من المعلوم أن الحسين هو أمام معصوم يعمل على وفق موقفه الشرعي، الذي يستلزم منه اتخاذ موقف ازاء قضية الانحراف عن الحق وضرورة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا لم يعمل بتكليفه الشرعي فسوف يلزم من ذلك نقض الغرض من كونه حجة الله على الأرض.
ولا شك ان الواقع في ذلك الوقت -ومنذ استلام معاوية الحكم- كان بعيدا تماما عن الاسلام ومبادئه وقيمه، فقد عمد الحكام الى تأسيس بدع كبيرة اوجدت اسلاما مختلفا عما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله)، فكانت المساجد التي لابد ان تقام فيها الصلاة ويذكر فيها الله تعالى ونبيه وآله ميدانا لبث سموم آل امية للتعبير عن حقدهم وكراهيتهم للرسالة وللنبي وآله.
ويؤيد ما ذكرناه قول المسعودي في (مروج الذهب) " ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته ـ أي معاوية ـ إلى ان جعلوا لعن علي سُنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير"(2 ).
وفي صحيح مسلم: "اصدار الأوامر لرعيته بأن يسبوا أمير المؤمنين عليا(عليه السلام)"( 3).
وعن الحموي في (معجم البلدان)" لعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) على منابر الشرق والغرب"(4 ).
وروى مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهنّ له رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلن أسبه"(5).
ولك أن تتصور كيف سيكون المجتمع لو بقي الأمر على ما هو عليه- في عهد معاوية وابنه يزيد شارب الخمر وقاتل النفس المحترمة ومرتكب كل الموبقات بمرأى وبمسمع أفراد المجتمع- من دون حركة الامام الحسين ونهضته، فمن المؤكد ان يزيدا وحزبه الاموي هو نموذج الاسلام الجديد الماحي للإسلام المحمدي، فلولا اباء الحسين لكنا نعبد رب معاوية ويزيد ونسب عليا واولاده على منابر رسول الله في وقتنا المعاصر.
وامام هذا الأمر كيف سيكون موقف الحسين؟
من المؤكد أنه (عليه السلام) سيعمل ويتصرف وفق تكليفه الظاهري؛ كونه معصوما ومشرعا وطريقا الى الحكم الشرعي الواقعي، إذ كان عليه واجب لابد من أن يمتثله، وهو المحافظة على الاسلام وبيضته، والا لكان نقضا لأصل وجوده وامامته وعصمته.
ونحن نعلم أن قول الامام وفعله وتقريره حجة، فلو لم ينتفض وسكت عن فعل الأمويين ولم يحرك ساكنا ازاء ذلك الحكم الجديد المبتني على كل هذه الموبقات والمخالفات الصريحة للدين، لكان سكوته إمضاء وحجة وقبولا به وبأفعال قادته، وكان لزاما على الأمة ان تسكت وترضى بذلك المصير.
وهناك أمر يذكره عادة الباحثون في نهضة الامام الحسين، وهو أنه (عليه السلام) كان يعلم بمقتله- بحسب ما انتهى اليه البحث العقائدي، والمعنون في بابه ببحث علم الامام-، ومع ذلك قدم عليه؛ فكان ذلك مثار استفهام وبحث مطول، وهو انه لماذا وقف ذلك الموقف الذي يعلم بأن نتيجته قتله وقتل اولاده واصحابه، الا يعد ذلك القاء بنفسه الى التهلكة؟
وهناك أجوبة كثيرة ومطولة للشيخ المفيد وللسيد المرتضى والطبرسي والمجلسي وغيرهم عن هذه الشبهة، ولا حاجة بنا الى عرضها، لاعتقادنا بضعف الشبهة ووهنها ولا يليق بنا اطالة الكلام فيها، وحسب أبي عبد الله أنه ابو الجهاد، فلو كانت الثورات والحركات الجهادية والشهادة في سبيل الله خاضعة لمثل هذا المنطق لكان حريا حذف باب الجهاد من كتب الفقه، لعلمنا بأن من يجاهد في سبيل الله لابد أن يقدم الشهادة على حياته؛ لأنه يعلم أن حياته بموته.
وليس غريبا على الحسين(عليه السلام) ان يكون عالما بنهاية حركته، بعد أن وضحها في اماكن وأزمنة متعددة، وشهدت لها الروايات المستفيضة قبل ذلك من الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله)، وكذلك ما دونه التاريخيون في كتبهم، ومن ذلك ما ذكره ابن عساكر بإسناده عن شداد أبي عمار، قال: "قالت أم الفضل بنت الحرث، زوجة العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله رأيت رؤيا أعظمك أن أذكرها لك، قال: اذكريها، قالت: رأيت كأن بضعة منك قطعت فوضعت في حجري، فقال (صلى الله عليه وآله): إن فاطمة حبلى تلد غلاماً أسميه حسيناً و تضعه في حجرك، قالت: فولدت فاطمة حسيناً، فكان في حجري أربيه، فدخل عليّ رسول الله (صلّى الله عليه و آله) يوماً وحسين معي فأخذه يلاعبه ساعة، ثم ذرفت عيناه، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك، فقال: هذا جبرئيل يخبرني أن أمتي تقتل ابني هذا"(6 ).
وكذلك ما أجاب به اخاه محمد بن ابن الحنفية حينما قال له: "يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال بلى، قال: فما حداك على الخروج عاجلا فقال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما فارقتك، فقال: يا حسين أخرج فإن الله قد شاء ان يراك قتيلا، فقال له ابن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟ قال فقال له قد قال لي إن الله قد شاء أن يراهن سبايا، وسلم عليه ومضى"(7 ). وقد كتب الى بني هاشم: "أما بعد فإنه من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح"(8 ).
ويقول السيد ابن طاووس في خصوص هذا الأمر: "والذي تحققناه أن الحسين عليه السلام كان عالما بما انتهت حاله اليه وكان تكليفه بما اعتمد عليه"( 9).
ويقول السيد محسن الأمين: "ومما يدل على أن الحسين عليه السلام كان موطّنا نفسه على القتل وظانا أو عالما في بعض الحالات بأنه يقتل في سفره ذلك " خطبته " التي خطبها حين عزم على الخروج إلى العراق التي يقول فيها: خُط الموت على ولد آدم الخ، فان أكثر فقراتها يدل على ذلك"( 10).
الثاني: البعد العبادي
كان الحسين في ليلته الأخيرة وفي يومه الأخير مشغولا مع رفيقه المحبوب، والذي لازمه طيلة أيام حياته ولم يفارقه طرفة عين، وما انقطع عنه في كل سكناته ولحظاته، حتى قال له بعض اصحابه: ما أعظم خوفك من ربك؟ فأجاب عليه السلام: "لا يأمن يوم القيامة الا من خاف الله في الدنيا"( 11).
وعبادته (عليه السلام) عبادة العارفين المتيقنين بالله تعالى، والذين لم يحتاجوا دليلا يستدلون به على وجوده والهيته، وهو ما يظهر من قوله في دعائه المأثور عنه في يوم عرفة: " كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك، متى غبتَ حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عميتْ عينٌ لا تراك، ولا تزال عليها رقيبا، وخسرتْ صفقةُ عبدٍ لم تجعل له من حبك نصيبا ...تعرفت إلي في كل شيء فرأيتك ظاهرا في كل شيء، فأنت الظاهر لكل شيء"( 12).
وفي العاشر من المحرم وقف الحسين (عليه السلام) مصليا بعد أن قدم أولاده وأنصاره الى الموت في سبيل الله ولسان حاله يقول: "الهي هذا ذلي ظاهرٌ بين يديك وهذا حالي لا يخفى عليك، منك أطلبُ الوصولَ اليك، وبك استدلُ عليك، فاهدني بنورك اليك، وأقمني بصدق العبودية بين يديك... ماذا وجدَ من فقدك وما الذي فقدَ من وجدك، لقد خاب من رضيَ دونك بدلا، ولقد خسر من بغى عنك متحوّلا"(13 ).
ولذا كان البعد العبادي جليا وواضحا من خلال افعاله (عليه السلام) في اليوم العاشر وتحت اسنة الحراب وصليل السيوف، والتي أرادها ان تكون درسا تاريخيا بليغا لكل الناس، لا سيما من اعتقد به وبنهضته، فقد أظهر (عليه السلام) أن همه أن يقيم الصلاة في ساحة المعركة، لأنها رأس الاسلام بعد الاقرار بالدين، وكذلك اظهاره الدعاء وكلمات الحمد فكان يقول: "أثني على الله أحسن الثناء واحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن وفقهتنا في الدين وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، فاجعلنا من الشاكرين"( 14).
ولكن كيف يكون المؤمن بالحسين ونهضته والسائر على طريقه من زاوية العبادة، وبأية صورة ينبغي له أن يكون مادام على محبة الحسين، وأي سؤال عليه أن يسأل به نفسه، وما هو أعظم هدف عليه أن يحققه، بعد أن علم بالهدف الأسمى الذي أراده الحسين من المؤمنين وخاصة أوليائه؟
من المؤكد أن أول إجابة هو أن على العبد أن يعبد الله مخلصا له الدين، وأن لا يتوانى عن ذكر الله في أحلك الظروف، وان لا يعرض بوجهه عنه تعالى القائل: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى))(15 ).
الثالث: البعد الأخلاقي
ان الهدف والغاية من الحركة هو الذي يحدد الافعال والسلوك، ولا شك ان الحسين كان هدفه معلوما وواضحا وكان (عليه السلام) مؤمنا بهدفه ومتيقنا من تحققه ولم يكن هدفه غير رضا الله تعالى – كما بينا ذلك في البعدين المتقدمين- ومن هنا تفرد وتميز الخطاب الحسيني عن الخطابات الاخرى، التي اعتاد القادة السياسيون والعسكريون ترديدها على مسامع اتباعهم، فكثيرا ما يحاولون أن يرغبّوهم بالمكاسب التي سوف يتم تحقيقها بعد الاستيلاء على السلطة، أو انهم يرهبونهم بشتى انواع العقوبة ان لم يتبعوهم والتي ستطالهم وتطال اهليهم وذويهم.
اما الخطاب الحسيني فقد كان صادق الوعد، إذ أخبر الحسين (عليه السلام) كل الذين جاءوا معه والذين التحقوا بالواقع الذي كان يحف بهم، فقد أخبرهم بأن الناس قد خذلوه ولم ينصروه على الأمويين، فلم يلجأ (عليه السلام)الى الخداع والترغيب ويأملهم بالدولة التي سيكون رئيسها ليتمتعوا بعد ذلك بالمغانم كي يستفيد هو من بقائهم معه، بوصفهم قوة وسندا يمكن ان ينتصر بهم على الجيش القادم من الكوفة، ولكنه الحسين الصادق الأمين الذي آثر ان يكون مدرسة اخلاقية يتقدمها الصدق والنبل والفضيلة.
فقد روى الطبري في تاريخه أن " الحسين كان لا يمرّ بأهل ماء إلّا اتّبعوه حتى انتهى إلى (زُبالة) سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة مقتل عبد الله بن بقطر، فأخرج للناس كتاباً فقرأ عليهم: أمّا بعد: فإنّه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل، وهانئ بن عروة، وعبد الله بن بقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمَنْ أحب منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه منّا ذمام".
قال: فتفرّق الناس عنه تفرّقاً، فأخذوا يميناً وشمالاً، حتى بقي في أصحابه الذين جاؤوا معه من المدينة، وإنّما فعل ذلك؛ لأنّه ظنّ إنّما اتّبعه الأعراب؛ لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه، إلّا وهم يعلمون على مَ يقدمون، وقد عَلِم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه، إلّا مَنْ يريد مواساته والموت معه"( 16).
وروي أنه قال: "ألا وإني لأظن يوما لنا من هؤلاء، ألا وإني قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم حرج مني ولا ذمام هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا"(17 ).
وقد اختلفت الروايات التاريخية في عدد الانصار الذين كانوا معه، فذكر المسعودي ان اصحابه حينما نزل كربلاء كان عددهم 500 ( 18).
ولا نغالي اذا قلنا ان البعد الاخلاقي قد تسيد النهضة الحسينية، حتى غدت انموذجا في الصدق والايثار والوفاء والمروءة، ولذا قد احتذى بالحسين كل العظماء، من اعتقدوا وآمنوا به، ومن كانوا بعيدين عنه ولم يتخرجوا من مدرسته، بل حتى الذين وقفوا بدربه لينالوا منه ومن انصاره وعشاقه ومع ذلك فهم يتبجحون بذكره ويفتخرون انهم ابناء الموقف الحسيني لبطولته وشجاعته وابائه.
وتفريعا على ما ذكرنا نقول: إنه ينبغي على الحسينيين - عشقا وانتماء- ان يكونوا اكثر تأسيا به من كل وقت، وان يفيدوا من مدرسة الحسين الاخلاقية بمختلف توجهاتهم ومقاماتهم، بأن تكون غاياتهم متطابقة مع غاياته، وان لا ينجروا وراء المبدأ القائل: (إن الغاية تبرر الوسيلة)، الذي حاصر حياتنا وقادنا الى السير في طرقات أبعدتنا عن درب كربلاء - درب العشق الحقيقي-.
الرابع: البعد الاجتماعي
لقد سعى الإمام الى بناء المجتمع الذي يمتاز بالإنسانية أولا وقبل كل شيء، إذ إن نهضته (عليه السلام) كانت نهضة اصلاحية لنظام عم فيه الفساد، فراح يسقي بدمه الزكي القيم النبيلة والاخلاق الانسانية الشريفة، لتسود في المجتمع الانساني وتتحقق فيه مفاهيم العدالة والمساواة والأخوة والحرية والكرامة.
ولا شك أن الحسين(عليه السلام) قد وعى رسالة جده المصطفى وأراد بحكمته ان يدخلها في حيز التنفيذ، فكانت معظم كلماته وخطبه تشير الى أنه (عليه السلام) لم يكن أشرا ولا بطرا ولا مفسدا في الارض، وانما كان مصلحا اجتماعيا، اراد ان يحيي امة جده من جديد، بعد أن انحرفت عن الطريق، فكان يقول: "وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب النجاح والصلاح في اُمّة جدّي محمّد، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر"( 19).
وتحقق له ما أراد، وان كان الثمن حياته ونفسه العظيمة، التي قدمها قربانا لأمة كانت تسود فيها قيم الجاهلية، والتي لا تمت الى الإسلام والرسالة المحمدية بصلة، فراح يبث روح الوحي الحقيقي ويركز أسسه ودعائمه ويعلي طبقات بنيانه، بعد أن اوكل اليه جده العظيم – بأمر من الله تعالى- تلك المهمة الصعبة، فحفظ الأمانة وراح يقتفي محمدا وعليا، فقد كان والله أمينا على رسالة جده، باذلا مهجته في سبيلها، وموطنا نفسه على لقاء ربه، وكأني به يردد قول الله تعالى: ((الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ))( 20).
ولا شك أن أول لبنة في المجتمع هو الإنسان، ومن المعلوم ان الحسين قد ركز بنهضته على هذا العنصر المهم، من خلال تعليمه بكيف يرتبط بالأرض والطبيعة، ومن خلال تعليمه على كيفية تعامله مع أخيه الانسان الآخر، ومن خلال سن ضابط مهم وهو أن الله تعالى هو المثل الأعلى الذي لابد للإنسان- أي انسان- أن يصل اليه، سواء كان مؤمنا او غير مؤمن به، فقد قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)).
وحينما يعي الانسان والمجتمع بأجمعه، أن مساره الوحيد منحصر في ما قدمناه، بمعنى أنه يدرك بدايته ونهايته، مهما تبدل الزمان والمكان، فمن المؤكد ان هذا المجتمع قد بلغ أعلى درجات الوعي، وكان لزاما عليه ان يعلم بوجود حق الله، ومن حقوقه اطاعة اوامره والالتزام بنواهيه.
فهل حققت نهضة الأمام الحسين هذا الهدف؟
نعم حققت ذلك وتمكنت ان تخلق مجتمعا واعيا، ومدركا ماهية الارتباط الشديد بين افراده، اذ جسدت المجالسُ الحسينية أروع صور التلاحم وبذل كل شيء في سبيل احياء شعيرة الامام الحسين، بل نجد هناك نموا كبيرا في هذه المظاهر الجميلة التي تمتلئ بالوفاء والايثار والكرم الباذخ والبذل والعشق والولاء والبسالة والبطولة والشجاعة والتجدد والعطاء والفن والذوق وكل ما ينتمي الى الروح الحسينية، ولا أقل انك حين ترى ذلك التوقد والحماس تذعن لما ترى وتعرف انك في مجتمع حسيني، أقل ما يقال عنه انه مجتمع ذائب بحب الحسين ومبادئه وقيمه وأخلاقه.
الخامس: البعد الثقافي
لم تكن نهضة الامام الحسين حدثًا عابرًا قد مرّ في التاريخ، ودوّن في كتبه، ونقله المحدثون، ليكون عبرةً للأجيال الآتية، وعليهم أن يستذكروه في وقت الناس هذا، لاسيما في ايام شهر محرم، أقول: لم يكن هو حدثًا بهذا الوصف، بل أنه حدثٌ مستمر، ومعركةٌ متجددة بين الحق والباطل، بمعنى أنه (عليه السلام) ينهض في كل يوم ليقف بوجه الظلم ويحقق إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة.
والسؤال الذي يطرح هنا: هل كانت للثورة الحسينية ثقافة، وما هي تلك الثقافة؟
إن المقصود من الثقافة هو كلّ ما فيه استثارةٌ للذهن، وتهذيبٌ للذوق، وتنميةٌ لملكة النقد، وما يحكم به الفرد أو المجتمع، بحيث تكون شاملة للمعارف والمعتقدات، والفنون والأخلاق، وجميع القدرات التي يُسهم بها الفــــرد أو المجتمع، ولها طرقٌ ونماذجُ عمليةٌ وفكريةٌ وروحية(21 ).
إن أهم ما رسخته النهضة الحسينية هو الشهادة في سبيل الله تعالى، ومن خلال مسيرة النهضة الطويلة، يمكن لنا أن نجترح شعارا لها، نطلق عليه (شعار الشهادة من أجل الحياة)، وهذا الشعار وان لم يدوّن في الحركات الجهادية، ولم تردده الأجيال الحسينية المتعاقبة، بوصفه منهجا مختصا بالحسينيين، ولكننا نشعر بوجوده في الضمن حتى مع عدم الإشارة اليه أو التصريح به.
ويبدو لي انه اصبح ثقافة عامة، وسمة بارزة يعرف بها الحسينيون، اينما حلوا وفي أي زمان وجدوا، الأمر الذي جعل من المحيط أو الأرض التي يستوطن فيها الحسينيون، محطَّ اهتمام من قبل الحكام والمتسلطين على مقدرات الشعوب، فلا أحسب أن الحقد أو عدم الاعتقاد بالحسين أو بمذهبه هو وحده من كان يقف على قارعة الطريق امام عشاق الحسين؛ لينال منهم ويذيقهم الموتَ والقتلَ والتعذيب، بل أن الخوف من هذه الثقافة، التي تنشد العدالة والمساواة، والتي هي بالضد من اطماع وغطرسة الحاكمين كيفما كان دينهم وعقيدتهم، هو الذي يجعلهم يقفون بالمرصاد امام هؤلاء المعتنقين لهذه الثقافة السائدة في المنظومة المحسوبة على الحسين ومبادئه وقيمه.
السادس: البعد السياسي
تقدم أن الامام لم يخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، ولم يخرج لاستلام السلطة، اذ علم أو ظن بشهادته وشهادة من لحق به، ولم تكن نهضته نهضة شخصية أو عائلية او مذهبية، بل كان يريد بها تحقيق أهداف عامة، من أهمها:
أولا: الموقف الشرعي الذي لابد له(عليه السلام) أن يحدده في ذلك الوقت، كونه اماما وقائدا، فكان أمامه: إما أن يبايع، أو يسكت - والسكوت بالنسبة له امضاء وموقف ايجابي وقبول بالحكم- وإما أن يعلن رفضه الصريح، لمن تسلموا السلطة، بالحديد والنار، وحكموا الناس بالجور والاستبداد، وكان وصولهم الى قمة السلطة وحكمهم من دون أي وجه شرعي أو قانوني أو عقلائي.
وكان قد أختار الثالث بقوله: " إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسقٌ فاجرٌ شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة مُعلنٌ بالفسق والفجور ومثلي لا يُبايع مثله"( 22).
وثانيا: هناك هدف آخر قد حققه (عليه السلام) من خلال نهضته، وهو تحديد طريقة الحكم في مستقبل الأمة، والتي ينبغي أن تتبع، من خلال سن الطرق الدستورية الممضاة من الشارع، أو القوانين التي اتفق عليها العقلاء، وكل طريقة لا تنتمي الى الآليتين المتقدمتين - كنظام التوريث أو الانقلابات العسكرية أو الاستيلاء على السلطة بالقوة ومن غير وجه حق- مرفوضة بحسب مبادئ النهضة الحسينية.
ومن المعلوم ان أول من سن توريث الحكم في الاسلام هو معاوية الذي رفض خلافة الامام علي (عليه السلام)، ليكون أول ملك غير شرعي في الاسلام، فقد استمر حكمه تسعة عشر عاما ليبدأ بعدها النظام الذي ابتدعه من دون سند قانوني أو شرعي، بأن يأتي ولده الفاسق يزيد من بعده ملكا على المسلمين، لتنتقض فكرة الخلافة منذ مجيء الأمويين.
ومن الغريب أن يصطف مع انقلاب معاوية ضد الشرعية بعض المحسوبين على الاسلام، ويؤسفني أن أرى الكثير منهم يحاولون - بشتى الطرق ومن دون دليل- ان يجعلوا فعله وتصرفه حجة ويجب على الآخرين أن يحتذوا به بوصفه موقفا اسلاميا صحيحا.
ويمكن أن نذكر لذلك مثالا، وهوما ذهب اليه أحد الدعاة الاسلاميين العرب بقوله: " لقد بايع عدد كبير من الصحابة يزيد على الخلافة، وأقروا معاوية على توريث ابنه يزيد، وتقدر بعض هذه الروايات بأن عددهم زاد عن المائة، ولا شك أن الصحابة عندما أقروا معاوية على ذلك، أقروه لأنهم يدركون أن هذا في مصلحة استقرار الدولة، وأن البديل سيكون تهديد وجود الدولة الإسلامية، وزعزعة استقرارها، بل إمكانية اقتلاعها ثم اقتلاع الإسلام، وليس من شك أن الصحابة اتخذوا هذا الموقف نتيجة وعي متقدم في الحرص على الدولة الإسلامية، وعندما تحولت الدولة الإسلامية من نظام "الشورى" إلى نظام "الوراثة" كان ذلك نتيجة وعي عميق من الصحابة، بأنها خطوة ضرورية لأجل المحافظة على وجود الدولة الإسلامية، وبقاء الإسلام ذاته في سدة التطبيق، وإلا سيكون البديل هو "اقتلاع الدولة" و"اقتلاع الإسلام"( 23).
وما أدري ما الذي يدفع هؤلاء للدفاع عن موقف أقل ما يقال عنه إنه جريمة لا يمكن للتاريخ أن يغفرها، وهل يمكن تصديق مثل هذه المقولات التي ليس لها غطاء شرعي او عقلي أو عقلائي، وأحسب ان انحيازهم لتلك المواقف المخزية؛ وذلك لأنهم يريدون أن يصطفوا مع الظالمين الجدد؛ كي ينالوا شيئا مما يبذلونه لهم من وسخ الدنيا، لا أنهم مقتنعون بما ذهبوا اليه، والشاهد على ذلك تبدل مواقفهم وآرائهم بحسب الجهة التي تكثر فيها المغانم، وليس هذا غريبا، فأبناء اليوم هم احفاد اولئك الذين غرتهم الدنيا فماتوا بعارها وشنارها.
ثالثا: حققت نهضته (عليه السلام) هدفا كبيرا ومميزا، وهو تحديد مسار الأمة بكل ما يتعلق بتصرفات الافراد والمجتمعات، فلا ينبغي ان يكون الفرد خانعا مقهورا ذليلا، بل لابد ان يملك رأيا شجاعا، يعلنه امام أي سلطان كان، ولذا كانت الثورات التي جاءت بعد ثورة كربلاء كلها متأثرة بما أعلنته نهضة عاشوراء، وكان الأحرار أبدا يقتفون آثار تلك الكلمة المدوية: "والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر اقرار العبيد"( 24 )، وأصبح رأي أبي الاحرار شعارا يتخذونه في حياتهم وهو قوله :" أيّها الناس، إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول اللّه صلّى الله عليه وآله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرَّحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، أحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحق من غيّر"( 25 ).
(1) - الارشاد : الشِيخ المفيد، ج2 ، ص91
(2) - مروج الذهب، المسعودي، ج3، 42
(3)- صحيح مسلم، 7: 120
(4) - معجم البلدان، الحموي، ج3، ص191
(5) - صحيح مسلم، ج15،ص 175
(6) - تاريخ دمشق ، ابن عساكر، ج١٤ ص ١٩٦
(7) : اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس، ص40ِ
(8) - نفسه، ص41
(9) - نفسه، ص18
(10) - لواعج الاشجان، محسن الأمين، ص 254
(11) - ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج1، ص 830
(12) - بحار الأنوار، المجلسي، ج64، ص142
(13) - مفاتيح الجنان، عِباس القمي، 358
(14)- بحار الانوار، ج44، ص392
(15)- طه: 124
(16) - تاريخ الطبري، ج4 ص300
(17)- بحار الانوار، ج44، ص 393
(18) - مروج الذهب ، المسعودي، ج3 ص71
(19) - بحار الانوار، ج44، ص329
(20)- الحج: 41
(21) - ينظر: مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسِفي: ص58
(22)- اللهوف، ص17
(23)- غازي التوبة، موقع في النت
(24)- تاريخ الطبري، ج4، ص 323
(25) - تاريخ الطبري، ج6، ص215
|