
إضاءة خاصة
من بين جوانب إبداعية كثيرة تميزت بها شخصية الأستاذ الدكتور صلاح مهدي الفرطوسي في مجالات الكتابة التاريخية والثقافة العامة والشخصية في استراحاته الرمضانية الجميلة، اخترتُ الكتابة في جوهر اختصاصه وهو الجانب اللغوي، فهو محقق معجمي صرفي قلّ نظيره، وكان كتابه (المثلث لابن السيد البطليوسي) مثالا عمليا لِما أزعم، زد عليه كتابه المشترك أعني به المهذب في التصريف.
ومنذ أن حلّ الدكتور الفرطوسي في جامعة الكوفة عام 2011 قادما من غربة طويلة حلت معه شفقة الأبوة التي يعرفها من خَبَر جيل الدكتور صلاح ونهل من معينهم العلمي، فهم جيل يدمجون بين العلم والأبوة، وبين التدريس والتبنّي للتميز، ومن هنا سر احتفاء كلية التربية الأساسية ومن فيها منذ عام 2011 بهذه الروح الكبيرة والحانية الشفيقة، وحتى بعد انتهاء مدته القانونية وإحالته على التقاعد عام 2015، فما يزال أثره الطيب واضحا في سيرة أبناء الكلية وأساتيذها إلى هذا اليوم، ولذلك كنت أُحِبّ أن أعبر عنه دائما بأنه حلّ علينا هديةً من السماء.
ولا ريب في أن الاحتفاء بهذه الشخصية الفريدة في السمو النفسي والعلمي فرصة عظيمة للكتابة فيه وتسجيل الحضور في سجل أحبائه وطلاب علمه، وبحكم قربي النفسي منه لابد من تحديد مميزات هذه الشخصية بهذه الكلمات الموجزة:
أولا: امتلكت شخصية الدكتور الفرطوسي سموا أخلاقيا مؤثرا في كلّ مَنْ عرفه، فصغائر الأمور لا تعرف إلى روحه سبيلا، ولغو الكلام مما لا تستطيبه أسماعه، فليس في مجلسه غير العلم وأنفاس المودة، أما الغيبة والقدح بالآخرين والكراهية فلا يطيق وجودها في حياته وحديثه.
ثانيا: طُبِعتْ شخصيته على حب اجتماع الإخوان وطلاب العلم، فكان يبذل لأجل ذلك المال والصحة، ساعيا في سبيل نشر العلم وإشاعة الثقافة، ولعلّ من نتائج ذلك تشييد بناء خصصه للعبادة، وتأسيس مؤسسة ثقافية سميت بـ (بقيع الكوفة للحوار)، لها أثرها الواضح في الساحة الثقافية النجفية.
ثالثا: خصّه الله تعالى بروح الأبوة الحانية، فهو محل اجتماع المختلفين، ووسطيته واعتداله موضع تلاق عجيب لجميع مَنْ حوله مهما تعاظمتْ اختلافاتهم.
رابعا وخامسا و... في الحقيقة الوقوف على فرائد شخصية الدكتور تخرجني عما أريد التنويه به من الكتابة في هذا المقال حول أسلوبه في الكتابة والتحقيق، فأكتفي بما ذكرت.
أسلوبه في التحقيق
كان تحقيق (المثلث لابن السيد البطليوسي) مشروعه في الدكتوراه في جامعة القاهرة عام 1978، حذره من ركوبه مشرفه الدكتور محمود فهمي حجازي كما صرح هو بذلك في مقدمته، ولكنه ركب هذا المركب الصعب وظفر بما أراد.
وآثر أن يسلك في تحقيقه بطريقين: الأول منهما: جعله في دراسة مؤلف الكتاب ـ ابن السيد ـ فوقف على نشأته وبيئته وشيوخه وتلاميذه، وقلب أحداث عصره الأندلسي ودافع عنه بحس الدليل لا مجرد العاطفة، ويمكن تعريف القارئ بأسلوب تحقيقه في هذا القسم على النحو الآتي:
ـ جرى التعريف بالمؤلف ونسبه وهو عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي (421ـ 541هـ)، وبطليوس إحدى مدن الأندلس على بعد مسيرة ستة أيام من إشبيلية وطليطلة، وعبر عنه المحقق الفرطوسي بأنه خلاصة كل ثقافات العصر الذي نشأ فيه.
ـ حاور الدكتور صلاح أحداث عصر المؤلف، ولم يقنع بكل ما وقع في يده من قدح بابن السيد والتحامل على أخلاقه، فدافع عنه المحقق بالدليل والعقل.
ـ أشار الدكتور المحقق وهو يترجم للمؤلف إلى رفد علماء المشرق لعلماء المغرب بالمعارف المختلفة، وما كتاب المثلث إلا مثال لذلك، ومن يقرأ شيوخ ابن السّيد يعرف مدى أثر تأليفات علماء المشرق بتلاميذهم ـ بشكل أو بآخرـ من أبناء المغرب مثل مؤلفات ابن السكيت والأصمعي والمفضل والمعري، وهي ظاهرة ينبغي إشباعها بحثا واستقصاء يوم كانت بغداد أم الدنيا حقا.
ـ عرض الكتاب لثقافة ابن السّيد الموسوعية، وربما أعجبته موسوعيته فتأثّر بها في اللاوعي، فقد سلك سبيله في الأخذ بأطراف العلوم، وابن السّيد كتب في المذاهب الإسلامية في (الإنصاف في التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم)، وعزاها إلى ثمانية أوجه.
ـ وألّف في الأصوات فوضع كتابه (الفرق بين الأصوات الخمسة) لِما وجد من حاجة الناس إليه، ويعني بها (ظ، ض، ذ، س، ص).
ـ وألّف في الفلسفة فكان كتابه (الحدائق في الفلسفة العالية).
ـ وفي اللغة كتابه (الحُلل في إصلاح الخلل من كتاب الجُمل للزجّاجي)، وألّف في العلوم المختلفة فكان كتابه (المسائل والأجوبة).
وأما القسم الثاني من الكتاب فهو قسم التحقيق الذي كان فيه الدكتور صلاح إحصائيا بيانيا، ومعجميا صرفيا وصوتيا بامتياز، أجرى عمله على ما يأتي:
ـ حدد المحقق بداية معنى مصطلح المثلث، وعرفه بأنه في اللفظ (ما اتفقت أوزانه وتعادلت أقسامه ولم يختلف إلا بحركة فائه فقط، أو بحركة عينه فقط، أو كانت فيه ضمتان تقابلان فتحتين أو كسرتين)، وعرف القاريء بمن سبق البطليوسي في الكتابة بالمثلث وهو محمد بن المستنير قطرب (ت206هـ)، والقزاز.
ـ أجرى المحقق مقارنة بين كتب المثلثات في قسم من كتابه، فقارن بين عمل قطرب والقزاز، وما استدرك عليهما ابن السيد بعد ذلك.
ـ جرى حصر القسم الثاني من كتاب المثلث بـ: المثلث المتفق المعاني، مثل: شَرب، شُرب، شِرب، وعدها بـ (138) مفردة، وأما المثلث المختلف المعاني فعدها بـ (695) كلمة، وقسمها على وفق الحروف (28) حرفا من الهمزة إلى الياء.
ـ وضع الدكتور الفرطوسي إحصاءات كثيرة للجذور الصوتية للمثلثات، وقارن بين كتبها الثلاثة، وأحصى عدد المصادر التي أخذ منها ابن السيد فعدّ نقول من الشعراء وعدد أبياتهم.
وأما ما أود الإشارة إليه في هذا الشأن وأراه بكل تواضع مفيدا في هذا المقال فهو على الملاحظ الآتية:
أولا: أرى توحيد العنوان بالمنهج من جهة تقديم الدراسة على التحقيق، لأن هذا ما جرى فعلا في الكتاب.
ثانيا: أجد أن أصل فكرة المثلث عائدة إلى عبقرية الخليل بن أحمد الفراهيدي في تقليباته المبتكرة للألفاظ التي حصرها في معجمه الرائد (العين)، وهي نفس الفكرة الرياضية في وضع علم العروض وحصر أوزان الشعر العربي، وأخذها منه قطرب وطورها في (المثلث)، ثم تابعه القزاز، وتبعهم على ذلك ابن السيد في المغرب (في الأندلس) فيما بعد، ولاسيما إذا علمنا أن قطرب تلميذ سيبويه في البصرة، وسيبويه تلميذ الخليل.
ثالثا: يبدو أن لقب (ابن السيد) بتشديد السين وتخفيف الياء من ثقافة أبناء شمال أفريقيا إلى هذا اليوم، ونقلت إلى الأندلس، وهي لا ريب مخففة من لفظ السّيّد بتشديد السين والياء، ولا أرى موجبا بأن لفظ السيد يعني الذئب، إذ لا مناسبة بينها وبين نعومة بيئة الأندلس وبطليوس، والله العالم.
رابعا: تبدو قيمة معجمات المثلث في القسم الخاص بالمثلث المختلف المعاني، لأنه دال على سعة العربية ودقة ألفاظها، ونفي الترادف التام بين الألفاظ المتشابهة في الهيأة والمختلفة في الحركة، وهو ما يميز العربية وعمق معاني مفرداتها وسعة إحاطتها، وكثرة أعدادها من بين لغات البشر، وأما القسم من المثلث المتفق المعاني فهو اختلاف صوتي بين المفردات، وقد يحصل في لغات كثيرة، بمعنى آخر ليست خاصة باللغة العربية كما في القسم الأول.
وأختم بالدعاء بتمام الصحة للأستاذ الكبير الدكتور صلاح الفرطوسي لما قدم في حياته من معارف جمة أثرت المكتبة العلمية والصرفية والأدبية والتاريخية، مد الله في عمره ومتعنا ببقائه، إنه ولي حميد.
أ.د. عباس علي الفحام
جامعة الكوفة / كلية التربية للبنات
|