
لم يكن لهذا البلد أن يحتفظ بعزه ورفعته دون تضحيات جسام خطت تاريخه بأحرف من نور..
ولم يكن لأعداء هذه الأرض وشعبها أن يتركوا ذلك الأرث الخالد دون منغصات، وشوائب وتدخلات لهم فيها مآرب وغايات مختلفة..
العراقي.. يستحضر الرفعة كلما ازدلفت الخطوب، ويستجلب إرثه التاريخي بكل الامتدادات ليقول للآخر المتبجح بشيء من زخرف دنياه: "أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ.."..
العراق.. في رسم بياني يحاكي أصالته يعني (العراق) ولا شيء آخر سوى العراق وفخامة الأسم تكفي..
هويته.. هي هي.. بكيفها وأينها وجوهرها.. ملح الأرض و إشراقتها والكوفة التي يحبونها وتحبهم (صلوات الله عليهم).. والحفاظ على تلك الهوية من أن يتم طمسها كان هاجسا عند المرجع المفدى يتوجس منه خيفة منذ أول خيط لفجر التحرر من ظلمات الطاغوت.. لتكتب (الواشنطن بوست) ذلك وتدونه جوابا عن سؤالها (ما الخطر المستقبلي؟)..
العراق.. محطات كثيرة.. متغيرات كبيرة.. حكومات وممالك تعاقبت.. هلك فيها الملوك تلو الملوك واستخلف الله بعدهم آخرين.. كلٌ كان يدلي بدلوه على حين غفلة من الزمن.. لكن العراق باق ينتظر زوال أولئك تارة، وصولة حكم غيرهم تارة أخرى.. نقي الثوب نقي الهوية..
شهد العراق حكم أعتى الطغاة لكنه في الوقت ذاته شهد زوالهم وشهد ابتسامة علت شفاه من ظُلم ومن اضطُهد..
أطل الشيطان إطلالة على هذه الأرض فرأى في مستقبلها تتويج رسالات السماء بالكمال الذي تنشده البشرية.. فأعمل مكره وغدره واختار حزبه وأمم معه أعدت واستعدت وتهيأت وتنقبت لوأد مشروع دولة العدل بل لوأد الانتظار..
وأطل الغرب برأسه -و بكل ما أوتي من إمكانات- على هذه الأرض فوجدها من أشد البقاع عنادا لتوجيهاته وغاياته ومخططاته.. فسلط عليها وعلى غيرها من دول الشرق حكام جور يمهدون للتبعية المطلقة الخرساء.. فنجحت المخططات في كل مكان الا في أرض الإمامة حيث العاصمة العالمية.. والمشروع الكوني (العراق).. فما أن سقط بيدق العمالة الاعوج وهوى تمثاله خاسئا حتى عاد العراق -قبل أن يرتد الطرف- الى الهوية المغيبة لتبرز جلية في الشعائر التي تحيي القلوب وتصنع الأمل وترضي الرب وحججه أولي الأمر..
عجزت الإدارة الفلانية والإرادة الشيطانية عن فك شفرة إنسان هذه الأرض وقد مارست معه:
حكام جور وعمالة.. ولم تفلح
ضربات عسكرية.. ولم تفلح
احتلال سمج غادر... ولم تفلح
فتنة طائفية قذرة.. ولم تفلح
مفخخات وذبح وتهجير.. ولم تفلح
عبث بمقدراته الاقتصادية.. ولم تفلح
لم يبق سوى إظهار شيء جديد حسبوا أنه المارد الذي سيقلب موازين قوى هذه الأرض، فمُنحت له سمة العالمية والانتشار، ورفعت له راية الخلافة في أماكن عدة؛ ليخيل للجميع أن (الدال والالف والعين والشين) هو اسم تنظيم يستهدف العالم.. لكن الحقيقة هي: أن المستهدف الأول في مشروعه هو العراق ومن ثم يكون له تتمة في أماكن أخرى بحسب ما يرتأيه الشواذ خلف كواليس الظلام..
حان وقت إخراج تلك الثلة من الأوباش ترفدهم قوى الشيطان وتوجيهها نحو العراق.. حيث لم تكن من دولة مؤسسات لتواجههم إذ استغشى القوم ثيابهم وصموا آذانهم عن نصح منبر الصحن الحسيني الشريف طيلة أحد عشر عاما من ممارسة السلطة.. لتنهار المؤسسة العسكرية عند أول مواجهة مع شذاذ الآفاق..
كاد كل شيء أن ينهار مع انتكاسة القوة الماسكة للأرض، ومع عمالة المتربصين والحواضن.. كاد كل شيء أن يتزعزع مع أنباء توغل كبير وسقوط مدن بأكملها.. كادت الحياة أن تتوقف ويدب في أنفس الناس القنوط واليأس مع إشارات سياسية تفيد بأن القضاء على هذه الهجمة تحتاج فيه الدولة الى عشرات السنين..
في تلك الأثناء.. وفي ذلك الوقت العصيب.. كان مرجع النجف يعد العدة لصد هذه الهجمة الشرسة.. ولم يكن للعدو أن يتوقع ما ستؤول إليه الأحداث القادمة سوى المزيد من النزوح وسقوط المدن وكرة ثلج تتدحرج لتكبر وتكبر دون أن يوقفها شيء.. أحلامهم كانت بنظرهم قابلة للتحقق.. العملية السياسية ستنهار والهوية ستضرب عرض الجدار..
منبر الجمعة في الصحن الحسيني الشريف يصدح بشيء جديد مختلف.. لم يكن خطابا موجها لإصلاح ما أفسده الساسة ولم يكن كلاما في شأن آخر.. بل كان فتوى مباركة تستنهض همم الرجال في الدفاع عن الأرض والعرض..
"فأنه يكون شهيدا".. كانت الكلمة الأكثر دلالة من بين كلمات السِفر النوراني المبارك على الفوز العظيم..
اندفع أبناء الشعائر والمنابر ورجال الله وملح الأرض ليحيلوا دولة الخلافة الى خرافة، ويحيلوا توقعات الغرب بالانتكاسة الى نصر مؤزر..
انتصرت الفتوى فكانت المكتسبات فريدة من نوعها، فهي قد أبرزت قوة الهوية الثقافية لهذا الشعب، وأظهرت مدى طاعة المؤمنين لمرجعيتهم المباركة، وبينت للساسة ضرورة التخلي عن الأنا واعادة النظر في مسؤولياتهم تجاه شعبهم.. كما حققت الفتوى عنصر الثقة بالنفس لدى الشعب في قدرته على مواجهة أعتى الهجمات الخارجية..
وعززت روح التكافل والتعاون مع ظهور حراك لوجستي داعم يرقى لمستويات عالمية في الاداء..
ومن الجدير بالذكر أن الفتوى وما تحقق من نصر على أثرها أعطى لبعض الأخوة من الشركاء في الأرض ممن غرر بهم ففرحوا لمقدم الاوباش أن العراق للجميع ولا فرق بين عراقي وآخر وخير شاهد على ذلك دماء أبناء الجنوب والوسط التي سالت على أرض شمال وغرب العراق دفاعا عن أهلها..
حفظ الله مرجعنا المفدى ورحم الله شهداءالفتوى.. رحم الله تلك العمائم الشريفة التي غادرت حلقات الدرس في حوزاتها وانطلقت ملبية لنداء مرجعيتها العليا..
مكاسب الفتوى كبيرة بحيث لا يسعها مقام أو مقال متواضع.. المكاسب التي تحققت للعراق وشعبه نوكلها للتأمل والتدبر ولعل مع كل حدث سيكون لها شاهد يروي من بطولات أبنائها ما يُعد فوق كل مكسب..
اللهم عجل لوليك الفرج.
حسين فرحان
|