لا زالت الدراما العراقية تؤكد معاناتها من مرضٍ مزمن: أفكار سطحية، حبكة مكشوفة، حلول ساذجة، وأداء تمثيلي مُتخشّب، ولا يزال المنتجون الجدد يحاولون تعويض خللها البنيوي هذا بالجذب البصري، فيستخدمون اضاءة مُبهرجة، ديكور مُبالغ فيه، نقاوة أجواء مفرطة، ناهيك عن دزينة حسناوات أفضل ما يبرعن فيه استهلاك البوتوكس والفلر ومساحيق التجميل، ما يجعل المشاهد يشعر أن ما يتابعه مُنفصل عن بيئته المألوفة، كأنه يشاهد مسلسلاً تركياً تم شراؤه من "البالات".
هذا الحال يجعلنا نشبه المسلسلات العراقية اليوم بـ"الحامض حلو"، نستمتع بحلاوته على اللسان، لكنه لا يمنح اجسادنا فائدة معتبرة، وننسى طعمه بعد دقيقة من ذوبانه الأخير، فاستهلاك المسلسل العراقي صار يشعرنا أما بالمُتعة الوقتيّة او بالمُتعة في قتل الوقت.
يحدث هذا في زمن شاهدنا فيه دراما عالمية انتجها مؤلفون ومخرجون بحجم فلاسفة من العيار الثقيل، يمتلكون ثقافة عميقة حول الواقع الراهن ورؤية ثاقبة في حاجات الجيل الجديد، ما يجعلهم أشبه بعلماء النفس والاجتماع من الطراز الأول.
قديماً، وعلى الرغم من مرضها المزمن، تمكّنت الدراما العراقية من أن تنجب أعمالاً مميزة تتلاءم مع حاجات مرحلتها، لكنها بعد 2003 صارت مجرد وسيلة للصراع بأنواعه: السياسي أو الأيديولوجي أو التجاري، او "كوكتيل" من هذا وذاك، فيكون المسلسل نسخة عن بروباغندا فجّة، تفرض نفسها على المشاهد بشكل يُثير الغثيان.
قد يُغرينا ارتفاع عدد المشاهدات لهذا المسلسل او ذاك فنظن أنه نجاح باهر، ولكنه في الحقيقة سرابٌ للنجاح، يُشبه كثرة الإعجابات على صورنا الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، لا تزرع في العقل وعياً ولا تترك في الوجدان علامة، ولولا طبيعة الشهر الفضيل الذي يجمع افراد الأسرة، فضلا عن أثر العقل الجمعي المرتبط بالموسم الاعلامي الرمضاني، لما وجدنا لهذه المسلسلات أجساداً تحضر ولا عيوناً تنظر.
ولو وجدنا تفاعلاً لدى بعض المراهقين مع اقوال او مشاهد او ابطال هذا المسلسل او ذاك، فليس يحسب إلى التأثير المباشر للدراما العراقية، بل لآثار التقنية الالكترونية في التسطيح الفكري او الترويج الاعلاني، مع عجز العوائل في اشباع الحاجات النفسية وتنمية الحصانة القيمية لهؤلاء المراهقين.
وما يهمّني أن أجعله ختام قولي هو: تنبيه الناقدين لهذه الدراما من المصيدة التي وقعوا فيها، لقد بالغوا في نقد المسلسلات العراقية حتى صار لها قدراً أكبر من قدرها، إذ يستنبطون منها مؤامرات مذهبية ودسائس ديموغرافية من دون دلائل وافية، بشكل يذكرنا بالحملة التي تدّعي أن عبارة "كوكاكولا" المكتوبة على علبة المشروب الغازي تُقرأ بالعربية "لا محمد لا مكة"!
إن خروج الناقدين عن جادة التوازن النقدي مع حسن نواياهم، قد يُقلل من ثقة الأجيال فيهم، ثم يُسهمون بإعطاء تلك المسلسلات جرعة جدل تُعلي من مقامها البائس، وتغري الغافلين عنها بالتوجه لمتابعتها، بل وتشجّع المنتجين مستقبلا على انتاج مسلسلات أكثر إثارة للجدل، ويغري مزيدا من الجمهور للنزول الى حضيرتهم.
إن الدراما العراقية الحالية تحمل بذور فنائها بذاتها، وُلدت مشوّهة وغُرست في بيئة هشّة، وقدرتها على التغيير الاجتماعي محدودة بشدة، ونحن قادرون على إيقاف آثارها السيئة بطرائق أنجع من النقد المسرف.
لنعرف قدرها ولنتعامل معها وفقاً لذلك.
|