إِبتداءاً هنا الإشارة إلى أنَّ الذي يسمع قصيدة أو يقرأَها يقارن بين المسموع أو الذي يقرأهُ وبين العمر الزمني لِمُنْشيء النص فقراءة لأي نص من النصوص النثرية بهذا الديوان يأخذك الخيال أو التصور إلى أنَّ الشاعر رجل قد كسرَ ردحاً من الزمن بحيث أصبحت عنده هذه التجربة الحياتيه وأنّه اكبر السن قد خبرَ الحياة حتى أنَّهُ زاوجَ بين العمر الزمني بخبرته والتجربه الشعوريه بتدفقها حتى بنى نصه الكتابي ولكنني على الرغم من أنَّهُ تعرَّفتُ على هذا الشاب الطموح الهادئ المؤدب حتى في كلامه رايتُهُ شاباً في مقتبل العمر بعد عمرُه الزَّمني لم ينضج واستغربتُ عندما قرأتُ مجموعته ولأوّلِ مرةٍ بعد أنْ أَهدانيه إيّاهُ من أنَّ هذا الشاب بهذا العمر الزمني قد أجاد في توليف الألفاظ وصولاً إلى العبارة الموحيةِ المبنيةِ بناءاً متيناً والمسبوكة سبكاً مُحكماً والمصاغة صياغةً أدبيةً تَنِمُّ عن عمق تجربة و سعةِ أدراكٍ وكأنّهُ قد عَرَكَ الحياة و خاض غمارَها حتى اختمرَتْ لديه أدواتُ الكتابةِ بسعتها وبعدَ هذا أَراني مجبراً على التأني في الوقوف بما جادَتْ به قريحةُ الشاعر الشاب في هذه القصائد النثرية الجميلة الهادفه إِبتداءاً أَقف عندَ الإهداءِ بتأَمُّلٍ ويأخذك الإهداءُ مجبراً إلى اخذ حسرةٍ عميقةٍ يدخلك فيها إلى حزنٍ عميقٍ تشيرُ إلى نفس مُعَذَّبةٍ باتتْ تحتَ ضرباتِ الزمن الصعب عندما يقول " إلى كلَّ دَمْعَةٍ إِغْتَسَلَ بها القلب " ومعروف أَنَّ دمعةَ القلب تُسْكَبُ على جفاء حبيب أو بُعْدَهُ أوْ فراقٌ وقتيٌّ أو أَبديٌّ.
والوقف على أو عِنْدَ أول قصيدةٍ بعنوانها:
" ظمأُ النهر" تتلاطمُ بك أَمواجُ الخيال عند نَهْرٍ يشكو العطش وفي جَوْفِهِ الماء الذي يجري لِلْسُقْيا وهنا السَّعَةُ في التَّصَوُّرِ إلى أنَّ الشاعِرَ لا يريدُ به نهراً حقيقاً وإنّما هو النَّهرُ المجازي ولعله يقصد به الروح ثم يزاوج الشاعر بين ضجيج ذاكرتِهِ وبين هذا النهر الجارف ولكنَّ هذا النهر في رؤية الشاعر أَنَّهُ (قد قَطَّعَتْ أنفاسَهُ النارُ) فأحترقت كل أَحلام الشاعر الوردية إذن هنا رؤيا للشاعر وهنا حلم منشود وهذا الحلم لم يتحقق يا تُرى هل هو "الحب" وحبُّ مَنُ؟ ثمَّ مِنَ المُسَلَّمِ بهِ أَن النهرَ هو المخوّف للنار فكيف تمكنت النار من تقطيع أنفاس ذلك النهر إنَّهُ لَخيالٌ لطيف وواسع وأنني أرى أنّ تَقَطُّعَ أنفاسِ النهر هي جزءٌ من الحقيقة على حسابِ الخيال لأنَّهُ من منّا لم يمر بتجارب في زهو الشباب بما يضيق بها الصدرُ وتأخذه الحسرة والألمُ والتأسف لاحظ أن الشاعر في خِضَمِّ أَلمهِ وسط الماء يظهر لهيب لا إنساني يحرق أمواج ذلك النهر بعنفوان فهنا قلبَ الموازين من إطفاء اللهيب الناري بالماء إلى جعل وسط الماء ذلك الّلهيب المشتعل أو المستعر ساعدك الله يا أيها العبادي ولكنها لم تكن تجربتك وحدك بل سبقك العنصري البشري قبلك في هذا المضمار فاصبر واصطبر لأنّ بودقة الحياة منذ الولادة معارك وصراع والبقاء للأَقوى لأنَّ حواء تذهب ويحل محلها حواءات و أدم متحير ولكنَّ الحرقة في القلب باقيه والدِّيار تتبدل ربّما أفضل منها ولكن يبقى الحنين إلى الحبيب الأول بشراً أو مكاناً
وهذا الشاب الشاعر تخيَّر من الألفاظ ذات الدلالة والمعنى لِيَتمَّ قصيدته على هذا المفهوم صراعاً بين المعقول واللامعقول في جعل الشاعر أن يحمل آلته الموسيقيه العاريه من الأوتار وهنا يبدأ التساؤل هل أن آلتك الموسيقيه منذ أحتويتها كانت بلا أوتار فهي غير عازفه؟ أو أن كثرة العزف عليها قد قطَّعَتْ أوتارها؟ فِان كان هكذا فما عليك إلا أن تبحثَ عن أوتار جديدة لإصلاح آلتك والزّمن معك و إيّاكَ وشِدَّةَ العَزفِ.
أسلوب الشاعر
بعدَ تصفح قصائد الشاعر كاملةً وجدت أَنَّ نفسية الشاعر سوداويه محبوكة على الغَبَش والظلمةِ على الرغم من شبابه لأن عمره في أول العقدين ولكن مطبات الحياة لا تعترف بالعمريه فأرجو له التفاؤل والضياء المنير بخيالٍ خصب لأنه بعمر أصغر أولادي
المُتتبع لحركة النصوص النثرية لأي كاتب يجد أَحياناً أن بعض الكتابات وهي كثيرة غير مفهومة وفيها غموض وعندما يدور النقاش والمداخلات مع كاتبها يقول أن فكرتها غير مفهومة أي خفيه وغامضه ومعنى ذلك أن المعنى غير مفهوم للسامع أو القارئ ويكون المعنى في قلب الشاعر وما عليك إلا أن تغور في قلب الشاعر لاصطياد المعنى أو المعاني.
ولكن...لكن عند تتبع مجموعة الشاعر الشاب المهذب علي العبادي من أول قصيدة إلى أخر قصيدة تقف على وضوح المعاني بسبك العبارات المختارة بألفاظها ووضوحها بدلائلها على مغزاها فتوضح في نصوصه وضوح الفكرة التي من خلالها ترتسم الصور الدالة على تلك الفكرة المستوحاة من تلك المعاني المتجسدة بالعواطف وأن كانت أحياناً تلك العواطف مغلَّفه بحسيةٍ إيمائيةٍ خاصة ممكن بأن تكونَ رمزية أحياناً
لهذا أن الشاعر قد أبدع في بناء القصيدة شكلاً ووضوحاً للمضمون. إذن كلُّ نصٍ يكاد أن يكونَ متكاملاً في معناه ومبناه وله التوفيق.
رائحة الورد في الشطره
عند اللفظة الأُوْلى توحي لك القصيدة إلى أنَّ الشاعر قد أُخذهُ الحنين إلى رؤية مرابض الأَهل والعشيرة والأَحبةِ بكلِّ معالمها حيث حزم حقائبهُ والتي لم يضع فيها ما يحتاجُهُ من ملابس وحاجيات بل أُودعها أَحلامَهُ التي شدَّتهُ إلى الرحيل لإعادةِ ذكرياتِهِ في مدينة "الشطرة" وزها في خيالِهِ من أَنَّهُ جعلَ اسم "الشَّطْرَه" مشطورة من شمس التأريخ وهذا حَقٌّ له لأنَّهُ كما يقال "كلُّ فتاةٍ بأبيها مُعْجَبَه" ويحقُّ لَهُ أيضاً أنْ يتدفّقَ الحنين في أَعماقِهِ لأنّها ربيع الصِّبا ومرابض الأحبة وتفتح للعين للرؤيا الأولى في عالم الحقيقة والخيال. ومن حّقِّهِ أيضاً أن يتساَءلَ أو يُسائل في ذاكراتِهِ عن أَهلها وكرمهم والعرب جميعاً مشهودٌ لهم بالكرم وطيبة النفس.
وهنا أَخذني الخيال إلى ابتداع هذهِ الصورةِ الحيَّةِ والاستعارة اللفظية حيثُ أَنَّ أَهلَ الشَّطْرَةِ الكرماء لم يفرشوا سُفْرَةً منْ حصيرٍ أو سجادٍ وهذهِ ضَيِّقة مقارنَةً بفرشهم الأرضَ سفرةً فأعطى سَعَةً وَبهاءاً والمعروف أنَّ السُّفْرَةَ يوضع عليها الطّعام والشراب إحتفاءاً بالزائر ولكنَّ هؤلاء العرب الأُصلاء وضعوا أَرواحهم طعاماً للضيف وهذا منتهى الكرم " والجودُ بالنَّفْسِ أقصى غاية الجودِ " .
وماذا نتوقع منهم وهم الأوفياء في حِلِّمهم وتَرْحالِهِم وعلى الَّرغْم من بُعْدِ الشاعر عن مدينته "الشطرة" ولكنْ أَلْمَسُ أَنَّ روحَهُ مشدودة إليها على الرغم من سكنه في مدينةٍ أخرى هي "كربلاء" فجعل بينهما واصلة بالرّوح ومهما طال الزّمن أَو البُعْدُ فإِنَّ روحَهُ متعلقة مُتأَصِّلَة متجذِّرة في أُصولها ومنابعها ومرابضها الأولى. وهذا بوح مفضوح لِحُبِّهِ المُتَعَرَّق في أَصالة مَنبَعيهِ وأهله وأحبتهِ وهنا نحوم حول الحمى إلى أنَّ روح الشاعر تحوم حول المدينة ورؤيتها كما في المقطع الثاني فهل روح الشاعر مشتاقة إلى رؤية الِّديار أو إلى رؤية من سكن الديار. ياللهول!!! فالمدينة رمز إلى الحبيب الحقيقي ولْنَبُحْ بالأمر فاشتياقه إلى "الشطرة" ليس منفرداً لرؤيتها ولِشَمِّ عبيرها حتى تَرُدَّ إليه روحه ويرجع وهو مُحَمّل بالأمل أو أنَّهُ لم يَرَها ويمتع أنظارَهُ برؤيتها وآذانُهُ بسماعِ صوتها ويذهب بهِ الخيال إلى الحقيقة أو أَنَّهُ يحمل حقيبتهُ قافلاً الرجوع إلى المدينة الثانية "وهو مُحَمُّل بِخُفَّي حُنَيْن "
رسالة من عيني
" والقلب يعشق قبل العين أحيانا" "والعين تعشق قبل القلب أحيانا" بدأت بعض ملامح البوح " وبح باسم مَنْ تَهوى ودعني عن الكُنى فلا خَيْرَ في اللّذاتِ من دونها سِتْرُ"
في استهلال القصيده الشاعر قرأ ملامح الطبيعه الواسعه الغَنّاء بأنهارها وأشجارها وجبالها ووديانها وحيواناتها قد قرأها في عَيْنَي حبيبتهِ ويالها من عينين اتسعت بهذا الاتساع وكيف أفرزَ حمامات السلام كي تغفو على شِفاه حبيبتهِ كم هي شفاهها من السعةِ لاحتواءِ حمامات السلام وهذا خيالٌ واسعٌ وهو باب من أبواب المجاز وهي صورة بلاغية جميلة جداً في عالم الرؤيا والتصور والمزاوجة بين نقاء الحبيبة وصفائها وبين حمامات السلام أن الحبيبة فيها من الحياء حيث أن الحياء اتخذ له موطناً آمنا رحباً من صفات الكلام والهمس مما يزاوج موسيقى عَذبه تجلب وتجذب إليها من سمع ذلك الهمس الجميل.
وحب الشاعر من حقه المبالغة أن هذه المرأة أو الفتاة الحبيبة هي امرأة العصر الغائبه والتي لم تأتِ بعد ولكن يستدرك ويصفها بأنها امرأة العصر الذي أتى فالعصر قد أتى وهل رافقته من أحب ثم يأخذه الخيال بشكل أوسع وجعل منها إمرأة المستقبل الذي سيأتي.
فزاوج بين لم يأت والذي أتى وامرأة المستقبل وامرأة هذا العصر أتراها امرأة حقيقه حبّها جذابه لهذا الوصف الجميل أو أنّ ما تصوره هو الحياة التي يتمنى ويرغب بها أن تكون أوانها البيئة التي يتمناها في خياله الخصب من أن تكون عصريه على المزاج وحسب الطلب فما عليك إلا أن تبحث عن المستحيل بين المحال.
رسالة إلى الله
تتابعت العبارات في هذه الرسالة بمعانيها وأبنيتها اللفظية والفكرية فهي طافحة بالخيال والصور وقد غطّى عنصر الحدث على التركيب اللفظي والمعنى الحسّيّ فيها ولم يكن ذلك بعيداً عن الأحداث التي تحيط بالزمن المُرّ على المكان المُرّ المبتلى فتقف بتأملٍ عند تعبير "تناثرَتْ أشلاءُ الذكرى على رصيفِ عاطفتي" ولم تتناثر أشلاء الذكرى لوحدها منفردة لولا تناثر الجسد الحي الذي بتأثره تناثر الأفكار ويسود جو التوتر والحزن الظاهر والخفي ولكن العجب كلّ العجب أنّ ذلك التناثر لم يكن عشوائياً بل صدر ممن تذوّقوا الجمال فكيف لِمتذوقِ الجمال يبادر في تناثر الأشلاء وإرادة إحراقها "بدم تلك السمراء" ا هي الخطيئة التي يتحمل وزرها الفاعلون؟ ومن ثم هناك استدراج وصفي مسموع عندما يعلو صوت الضجيج الذي يتعبه دقات الحب مما يولد الفرار بصورة امرأة راكضه متخبّطه ومتعثره بخوفها وألمها ورعبها ولم يكن الفرار لإمرأة فحسب بل ذلك الرجل الكهل أيضاً من المنهزمين مبتعداً بوقاره راسماً صورة الاحتقار لتلك الهزيمه ويأتي استنكار الأطفال جلياً في فرارهم من الموت ولكن إلى أين؟ لا حماية لهم فهم فرّوا من الموت إلى الموت "يدرككُّم الموتُ ولو كنتم في بروج مشيده". وقلوبهم تصرخ بالاستنكار "كفى، كفى، كفى" وهل من يسمع؟ وقد صُمَّت الآذان ومات العقل وساد الصبيان.
وقفْ معي طويلاً لهذا الخيال الواسع الذي عرج عليه الشاب علي العبادي في قوله " إذا ماتَ الموتُ فينا إعجاباً" استعمل الشاعر أداة الشرط (إذا) وأتبعها بالفعل "مات" والفاعل "الموتُ" وهنا عمق الصورة والتصور فإن الشاعر صوّر الموت بالكائن الحي لأنه خاطبه "مات الموت" فكيف للموت أن يموت؟
ما لم يكن الموت جسداً احتوى روحاً وعقلاً وإدراكا ووعياً وحساً وحياة بحيث انّهَ بعد حياته يموت والصورة واضحة للموت هو ليس بشيء خارج عن كينونة الكائن الحي باستقلالية تامه وإنما الموت يأتي اصطلاحاً بعد توقف القدره الحركية والفاعليه لأي كائن حي ومنها الإنسان فعندما يقترب العطل في أجهزة الجسم وتصبح غبر قادرة على عملها المرسوم لها فتتعطّل لذلك لذلك يفقد الإنسان حياته بتوقف تلك الأجهزة التي يصبح بأدائها للإنسان أو الكائن الحي القدرة على الحياة.
من هذا نفهم أن الشاعر الذي ظهر في فكرة أن الموت كائن تمنى له بالموت وعند موته أي موت الموت تصبح ديمومة الحياة الأبديه لان الموت قد مات أنها أمنيه تَعجيزيه.
|