كل مجموعة من حلقات هذه السلسلة تنشر في أحد المواقع.
جاء في کتاب الإمام علي عليه السلام وتنمية ثقافة أهل الكوفة للمؤلف محمد العبادي: الأسلوب التمويهي في الثقافة: الغاية منه تضليل الخصوم وإيهامهم، استُخدم هذا الأسلوب أيضاً من قبل النّبي سليمان عليه السلام في تنكير وتمويه حقيقة عرش بلقيس، "قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا" (النمل 41). قد لجأ أمير المؤمنين إلى استخدام هذا الأسلوب، لتشبيه الخصوم عن الاهتداء إلى موضع قبره، حيث روي أنّه عليه السلام (أمر ابنه الحسن عليه السلام أن يحفر له أربع قبور في أربع مواضع: في المسجد، وفي الرحبة، وفي الغريّ، وفي دار جعدة بن هبيرة، إنّما أراد عليه السلام بهذا أن لا يعلم أحد من أعدائه موضع قبره). وعن الأسلوب التنبيهي في الثقافة: الغاية منه توجيه الأنظار وإلفاتها لأهمية قدر الخطاب، هذا الأسلوب رغم أنّه يصدر منه عليه السلام بشكل تلقائي ودون تكلّف، إلاّ أنّ صورة التّنبيه واضحة للتّوجّه إلى قدر الخطاب. صعد أمير المؤمنين عليه السلام بالكوفة المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: (أيّها الناس، إنّ الذنوب ثلاثة، ثمّ أمسك فقال: له حبة العرني يا أمير المؤمنين قلت الذنوب ثلاثة ثمّ أمسكت. فقال: ما ذكرتها إلاّ و أنا أريد أن أفسّرها، ولكن عرض لي بُهر حال بيني وبين الكلام، نعم الذّنوب ثلاثة: فذنبٌ مغفور، وذنبٌ غير مغفور، وذنب نرجو لصاحبه ونخاف عليه). فالإمام عليه السلام بعد أن قال: الذنوب ثلاثة أمسك عن المضي في خطبته، وقد بيّن الإمام أن إمساكه حصل لعروض البُهر الذي حجزه عن الكلام. على الرغم من أنّ الإمام لم يقصد التنبيه، إلاّ أنّ اختياره كان من اختيار الله تعالى، "عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ" (الانبياء 26-27)، لذا تعلّقت إرادة الله في أن يكون هذا التنبيه لقدر الخطاب العلوي عن طريق عروض حالة البُهر. هنا رواية أخرى لها دلالة على أسلوب التنبيه. عن الحسين بن علي عليه السلام قال: (كنا جلوساً في المسجد إذ صعد المؤذّن المنارة فقال: الله أكبر الله أكبر، فبكى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وبكينا ببكائه، فلمّا فرغ المؤذّن قال: أتدرون ما يقول المؤذّن؟ قلنا الله ورسوله ووصيّه أعلم، فقال لو تعملون ما يقول، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فلقوله (الله أكبر) معانٍ كثيرة، ثمّ ذكر عليه السلام معنى الأذان).
وعن الأسلوب التصنيفي في الثقافة يقول المؤلف محمد العبادي: الغاية منه تمييز الأشياء وفرزها عن بعضها، في هذا الأسلوب تارةً يصنّف الإمام عليه السلام القرآن إلى أربعة أرباع، وأخرى يصنّف الناس إلى ثلاثة أصناف، وتارة يصنّف الملائكة إلى عدة أصناف، ومرّة يصنّف الإيمان إلى دعائم وشُعب، أو يصنّف الفسق إلى أربعة دعائم تحت ظلّ كلّ واحدة منها أربع شُعب، ومرّة يصنّف الظلّم إلى ثلاثة، وهكذا يكثر التصنيف في كلام الإمام. إنّ هذا التصنيف كفيل بتعويد الذّهن على تمييز الأفراد عن بعضها البعض. فلنأخذ قسطاً من بعض هذه التصنيفات المتعددة، ففي تصنيفه للقرآن، قال عليه السلام: (نزل القرآن أرباعاً، ربع فينا، وربع في عدوّنا، وربع سُنن وأمثال، وربع فرائض وأحكام، ولنا كرائم القرآن).
وعن الإمام علي عليه السلام والصفات الثقافية يتحدث الشيخ العبادي في كتابه الإمام علي عليه السلام وتنمية ثقافة أهل الكوفة: اتّصف المناخ الثقافي الّذي أودعه الإمام بين أهل الكوفة بنعوت تحلّى بها، تحكي العمق المعنوي والبعد المعرفي في شخصيّة الإمام عليه السلام، وتعكس مدى العمل والنشّاط الثّقافي الّذي قام به الإمام. فيما يلي عرضاً للصّفات الثقافية التي جاء بها أمير المؤمنين عليه السلام. 1. الصّدق والوضوح: جاء في التنزيل الحكيم أنّ عليّاً هو عَلَم الصّدق والتّصديق "وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ" (الزمر 33). ففي الروايات أنّ هذه الآية نزلت في حق علي عليه السلام: عن مجاهد: نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام وعن الباقر عليه السلام: (الّذي جاء بالصّدق محمّد صلّى الله عليه وآله، والّذي صدّق به عليّ بن أبي طالب عليه السلام). قد يُسأل ليكن الإنسان صادقاً فماذا يكون؟ إنّ الّذي يكون هو أن يصبح الإنسان على شرف منجاة وكرامة، وهذا الشّرف الأعلى يحفظ للإنسان قيمته وكرامته ونجاته (الصادق على شُرف منجاة، والكاذب على شُرف مهواة ومهانة). الصدق درع من النّار ووقاية من دخولها (أيّها الناس، إنّ الوفاء توأم الصّدق ولا أُعلم جُنّةً أوقى منه). إن الصّدق الّذي أراده الإمام لأهل الكوفة هو ما يخرج من سريرة الإنسان حاملاً معه صفة الوضوح والصّفاء، منذ الحركة الأُولى للإرادة في داخل قلب الإنسان وتبلور النية (وإنّ الله سبحانه يدخل بصدق النّية والسريرة الصّالحة مَن يشاء من عباده). فالصّدق عند عليّ عليه السلام يمتدّ إلى دخول الإنسان مقعد الصّدق والجنّة، وقد عيّن الإمام مقياس ثقافي لكشف الإيمان بالاستناد على صفة الصّدق والالتزام بها (علامة الإيمان أن تُوثر الصّدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك). إنّ إيثار الصّدق على الكذب في المواطن كلّها من علائم الإيمان، فعلى ما ذكرنا آنفاً، ما هو السّبيل لإبقاء الصّدق ثابتاً، بحيث يكون مَلَكة عند الإنسان؟ 2. الشموليّة والاستيعاب: إنّ الشّموليّة التي أضفاها علي عليه السلام بين أهل الكوفة هي نفس الشمولية التي نزل بها القرآن، لأنّ علياً والقرآن صنوان متلازمان لا يفترقان (وإنّ الكتاب لمعي، ما فارقته مذ صحبته). لذا عندما نقول: إنّ من الصّفات الثّقافية الّتي نشرها علي عليه السلام الشّمولية والاستيعاب، فإنّ ذلك يعني أنّ من صفات القرآن الشمولية والاستيعاب، لأنّ علياً هو القرآن الناطق، والكتاب الكريم هو القرآن الصادق. 3. القدرة والنفوذ: القدرة على ماذا والنفوذ في أي شيء؟ إنّ القدرة على التّأثير في الآخرين من الصّفات التي تحلّت بها شخصية أمير المؤمنين، الخطبة المسّماة الغرّاء شاهد على القدرة في التّأثير على النفوس، فبعد أن تناول الإمام فيها صفات الله تعالى، ووصّى الناس بالتّقوى ووصف لهم الدّنيا، الموت والقيامة، وطريق الاتّعاظ وعجائب صنع الله، أنصت النّاس إلى خطبة الإمام بكلّ وجودهم، وهو ما يكشف عن قدرته وتأثيره فيهم، وفي الخبر أنّه لمّا خطب بهذه الخطبة اقشعرّت لها الجلود وبكت العيون ورجفت القلوب.
ويستمر مؤلف الكتاب محمد العبادي في سرده عن الإمام علي عليه السلام والصفات الثقافية: 4. الاعتدال والوسطية: ورد ذكر مفهوم الوسطيّة في القرآن في بعض الآيات الشريفة. "وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مّحْسُوراً" (الاسراء 29). شبيه هذا المفاد القرآني في مراعاة الاعتدال قول علي عليه السلام: (وإن جَهَده الجوع قعد به الضّعف، وإن أَفَرط به الشّبع كظّته البِطنة، فكلّ تقصيرٍ به مضرٌّ وكلّ إفراطٍ له مفسد). ذكر أيضاً مفهوم الاعتدال والالتزام به في القرآن زمن القرون الأُولى الّتي سبقت الإسلام. "قُل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ وَلاَ تَتّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلّوا كَثِيراً وَضَلّوا عَن سَوَاءِ السّبِيلِ" (المائدة 77). جاء ذكر الوسطية كذلك في الآية الكريمة "وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً" (البقرة 143). فالآيات الكريمة تأمر بالاعتدال والوسطية والاتزان، خروجاً من فكّي الإفراط والتفريط اللّذين يعود سببهما إلى الجهل (لا ترى الجاهل إلاّ مُفرطاً أو مفرّطاً). أفشى الإمام صفة الاعتدال والوسطية في غير واحد من أقواله. (الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ وَآثَارُ النُّبُوَّةِ، وَمِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ وَإِلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ). إنّ الإمام عليه السلام عمّم ثقافة الاعتدال وكرّرها كثيراً. ليجعل النّاس على بصيرة في اختيار الطرّيق الوسط، وقد حدّد الإمام بعض الصّفات، تجنيباً من حالتي الإفراط والتّفريط. بيّن الإمام صفة الوسيطة لأحد أصحابه، دخل الحارث الهمداني على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في نفرٍ من الشيعة وكنت فيهم، فجعل الحارث يتأوّد في مشيته ويخبط الأرض بمِحجَنه، وكان مريضاً، فأقبل عليه أمير المؤمنين عليه السلام ـ وكان له منه منزلة ـ فقال: (كيف تجدك يا حارث ؟ فقال: نال الدّهر يا أمير المؤمنين منّي، وزادني أواراً وغليلاً اختصام أصحابك ببابك، قال: وفيمَ خصومتهم ؟ قال: فيك وفي الثلاثة من قبلك، فمن مفرطٍ منهم غالٍ، ومقتصدٍ تال ومن متردّدٍ مرتاب، لا يدري أَيقدم أَم يحجم ؟ فقال: حسبك يا أخا همدان، أَلا إنّ خير شيعتي النمط الأوسط، إليهم يرجع الغالي وبهم يلحق التالي). كذا حذّر عليه السلام الناس من المبالغة في حدّي الإفراط والتفريط والوقوع في الهلاك والضلال. (سيهلك فيّ صنفان محبٌّ مفرطٌ يذهب به الحبّ إلى غير الحقّ، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحقّ، وخير النّاس فيّ حالاً النّمط الأوسط فالزموه). 5. الواقعيّة والمثاليّة: المقصود من الواقعيّة هي أن يكون تفكير الإنسان وأعماله التي ينشدها متناسبةً مع إمكاناته وطاقته وعمره القصير. إنّ الواقعية قد أوضحها الإمام ببيان بليغ (وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، وَأَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ، وَأَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ، فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ، وَلَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ، وَلا كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ وَإِيَّاكَ وَالاتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى) (ليس كلّ طالبٍ يُصيب ليس كلّ مَن رمى أصاب).
|