عانى علماء حوزة النجف الأشرف من ظروفٍ قاهرةٍ؛ ما بين قتل وسجن ونفي، خاصة بعد انتفاضة شعبان المبارك، علاوة على رحيل آيات الله أمثال زعيم الحوزة السيد أبو القاسم الخوئي في ١٩٩٢، السيد عبد الأعلى السبزواري في ١٩٩٣، واغتيال كل من الشيخ مرتضى البروجردي في ١٩٩٨، الميرزا علي الغروي في ١٩٩٨، و السيد محمد صادق الصدر في ١٩٩٩، وغيرهم من فضلاء الحوزة.
أعتقل نظام البعث السيستاني مع ابناءه في ٢٥ آذار ١٩٩١، حيث تم نقله إلى فندق السلام في النجف تحضيراً لنقله إلى معسكر الرزازة، ثم إلى الرضوانية. طلب المحققون من السيستاني التوقيع على وثيقة تدين الانتفاضة الشعبانية. رفض السيستاني التوقيع على الوثيقة، مما أدى إلى تعرضه لتعذيب وحشي على أيدي أزلام النظام. بعد حين أُطلِق سراحه، ليعود إلى النجف. (راجع "معاناة السيد السيستاني وولديه في سجون الطاغية صدام حسين خلال انتفاضة ١٩٩١)
خرج آية الله العظمى السيستاني، دام ظله، من ركام القتل والتنكيل والتعذيب ليتحمل أعباء التصدي لمرجعية الطائفة الشيعية.
بعد وفاة استاذه السيد الخوئي (قُدِسَ سره)، لم يكن السيستاني مهيئاً للتصدي للمرجعية، فلا توجد عنده رسالة عمليه لمقلديه، احتراماً لإستاذه الراحل. بدأ مكتب الخوئي بإحالة الاستفسارات الدينية إلى السيستاني. كما أن ذوي أهل الخبرة من علماء حوزة النجف و قم أشاروا بأعلمية السيستاني، وهي مقدمة للتصدي للمرجعية. بدأ السيستاني بكتابة الرسالة العملية لمقلديه، حتى أكملها في أيلول ١٩٩٢.
فشل النظام المجرم باغتيال السيستاني في تشرين الثاني ١٩٩٦، و كاد أن يغتال مسؤول الحقوق الشرعية في مكتب السيستاني في مسجد كاشف الغطاء في نيسان ١٩٩٧. جميع هذه الاحداث دفعت السيستاني لان يغلُق مكتبه ويتوقف عن التدريس، والتزم داره، كشكل من أشكال الاحتجاج.
قد تكون فترة ما بين ١٩٩٢ و ٢٠٠٢ من احلك الفترات التي عاشها السيستاني، وهو يرى قوافل الشهداء ترحل، وعلماء تُقتل، وارهاب مُحكم، حتى وصف السيد محمد رضا السيستاني، عن هذه المرحلة قائلاً: "عانت حوزة النجف من مصائب شديدة في العقود الأخيرة، ونتيجة لذلك فقدت العديد من علمائها وكتابها وأعلامها البارزين من المفكرين، الذين قُتلوا وسُجنوا ونُفيوا وهُجِّروا، ولم يبق منها إلا الثلة القليلة من أولئك الأفذاذ". (أسئلة مجلة المكتبة "النادي الحسيني في النبطية"، على صفحة مكتب السيستاني، ج١)
بدأ مستقبل الحوزة العلمية في النجف على وجه الخصوص قاتماً للغاية. (راجع النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في الشأن العراقي صفحة ٩٤، حامد الخفاف). فبعد ان كان عدد طلابها يتجاوز ١٥ الفاً في سبعينات القرن الماضي، تراجع عددهم ليصل إلى الفاً فقط في شباط ٢٠٠٤. (راجع مقال “الحوزة العلمية الشيعية بين النجف وقم"، علي المؤمن)
لم يكتفِ النظام البعثي بقتل علماء النجف و زج فضلاء الحوزة في السجون، بل حاول ان يجعل شرخاً في حوزة النجف من خلال تبنيه حوزة ومرجعية عربية. في حزيران ٢٠٠٣، اصدر مكتب السيستاني بياناً جاء فيه: "سعى النظام السابق إلى جعل الحوزة عربية والمرجعية عراقية. لقد تسببت جهود النظام في حدوث فتنة في النجف، لكنه فشل في تحقيق أهدافه." (راجع أسئلة وكالة رويترز على صفحة مكتب السيستاني، ج٢)
قُبيل السقوط، سعى النظام البعثي لاستدراج عطف الشارع الشيعي من خلال فتوتين مزورتين نسبها إلى السيستاني تدعوان بوجوب الدفاع عن العراق وصونه ضد مخططات الأعداء الطامعين. (راجع كتاب "Compulsion in Religion" صفحة ١٥٠، صموئيل هيلفونت)
بعد ٢٠٠٣، انتقلت حوزة النجف إلى مرحلة اكثر حرجة يتوقف عليها حفظ الوجود الشيعي والدفاع عن سيادة العراق واستقلاله. اتجهت الأضواء الاقليمية والدولية إلى مرجعية النجف تتساءل: "أي نظام سياسي سيدعمه السيستاني؟". في الوقت الذي تجاهل فيه السياسيون قوة السيستاني، كانوا يجلسون مع المحتل، و يوزعون الأدوار، ويتقاسمون الثروات. لم يُدرِكوا أن السيستاني مستعدٌ للدفاع عن استقلال العراق. مع علم الاحزاب بأن السيستاني هو المرجع الأكثر اتباعاً من قبل الشيعة، فإن غالبية الأحزاب الإسلامية الشيعية لم تنظر إليه كزعيم روحي لها ولم تستمع إلى تعليماته إلا على مضض.
تصدى السيستاني لكل التحديات الجديدة في بيانات عديدة؛ أدان فيها أعمال النهب والعنف، والذي حمّل السيستاني قوات الاحتلال كل ما يحصل بالعراق. لم ينتقد السيستاني أولئك الذين قاوموا الاحتلال. كما أنه لم يدعو الناس إلى التعاون مع المحتل، لكنه كان قلقاً بشأن أهداف الاحتلال. (راجع أجوبة على أسئلة صحيفة واشنطن بوست على صفحة مكتب السيستاني)
أوضحت إجابة مكتب السيستاني على استفتاء في نوع الحكم في العراق فكانت الاجابة: "لا تمارس المرجعية أي دور في السلطة والحكم. و إن الدور الرئيسي للمرجع هو تزويد المؤمنين بالفتاوى الدينية في مختلف شؤون الحياة الفردية والاجتماعية، ولكن هناك مهام أخرى يقوم بها المرجع بحكم منصبه”. أما جوابه عن حكومة ثيوقراطية على غرار الجمهورية الإسلامية في ايران فكان: "إن تشكيل حكومة دينية على أساس فكرة ولاية الفقيه المطلقة ليس ممكنا". (راجع كتاب "النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في الشأن العراقي"، صفحة ٤٥، حامد الخفاف)
كما يرى السيستاني بأن "على علماء الدين أن ينأوا بأنفسهم عن تولي المناصب الحكومية". (راجع اجوبة السيستاني، على أسئلة مجلة دير شبيغل الألمانية). لينهي بيانه الجدل في الحكم الإسلامي في العراق قائلاً: إن القوى السياسية والاجتماعية الرئيسية في العراق لا تدعو إلى إقامة حكومة دينية، بل إلى إقامة نظام يحترم الثوابت الدينية للعراقيين ويتبنى مبادئ التعددية والعدالة والمساواة.
رفع السيستاني مكانة مقام المرجعية، مع الحفاظ على شرعية إرادة الشعب في العملية الديمقراطية. لم يقوض السيستاني المبادئ الديمقراطية التي عمل جاهدا على تكريسها واستبدالها عن السلطة الدينية.
توسعت عالمية السيستاني في ظل تصديه لمقام المرجعية لشيعة العالم. في حرب تموز ٢٠٠٦ بين العدو الاسرائيلي و لبنان المقاومة، استجاب السيستاني لطلب رئيس البرلمان اللبناني، نبيه بري، للمساعدة في إنهاء الحرب مع إسرائيل. دفع السيستاني مؤيديه في بغداد للضغط على الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش بدعم وقف إطلاق النار. (راجع كتاب "God’s Man in Iraq"، صفحة ٥٨)
كما كانت لزيارة الحبر الأعظم، البابا فرانسيس، إلى المرجع السيستاني في ٦ آذار ٢٠٢١ وقعاً دولياً، لما يمثله السيستاني من ثقل في مطالباته بالدفاع عن حقوق الأقليات، ليلتقي اعلى هرم الكنيسة الكاثوليكية بأعلى مرجع للطائفة الشيعية في العالم. قال الحبر الأعظم "كان السيستاني محاور مثالي، مقدس وذو مصداقية وقوي، شعرت بالواجب أن أذهب وأرى رجلاً عظيمًا وحكيمًا و رجل الله، يتمتع بالحكمة والفطنة. شعرت بالفخر، إنه منارة نور". (راجع مقال على صفحة الفاتيكان " Pope: Charity, Love and Franternity Are the Way Forward”، في ٨ آذار ٢٠٢١)
كذلك كان مكتب السيستاني في النجف قِبلةِ الامم المتحدة، حيث زار أمين عام الامم المتحدة و ممثلين عنه السيستاني عشرات المرات و في أصعب الظروف التي مرّ بها البلد، و رسائل السيستاني إلى أمناء الامم المتحدة، كل ذلك يكشف حقيقة مفادها "عالمية السيستاني".
|