في أيام الذكرى الثانية لرحيله المفجع لا بأس باستذكار نفحات من قلم فقيه أهل البيت (عليهم السلام) السيد الحكيم (طيب الله ثراه، وقدس نفسه) في بيان العقيدة الصحيحة للشيعة الامامية الأثني عشرية، التي لا افراط فيها ولا تفريط، ولا تقصير ولا غلو، بل هي الطريقة الوسطى المستقاة من النبي وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين) الذين طالما وصفوا انفسهم بأنهم (الامة الوسطى)، و (النمرقة الوسطى)، و (النمط الأوسط) وأوصوا اتباعهم بذلك، وشددوا عليهم، فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: " اليَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَالطَّرِيقُ الوُسطَى هِيَ الجَادَّةُ عَلَيهَا بَاقِي الكِتَابِ وَآثَارُ النُّبُوَّةِ وَمِنهَا مَنفَذُ السُّنَّةِ وَإِلَيهَا مَصِيرُ العَاقِبَةِ "(١).
ويقول (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر (رضوان الله عليه): "وَليَكُن أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيكَ أَوسَطُهَا فِي الحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي العَدلِ "(٢).
ويقول (عليه السلام) في بيان حال الناس فيه، ووصيته لهم: "وَسَيَهلِكُ فِيَّ صِنفَانِ مُحِبٌّ مُفرِطٌ يَذهَبُ بِهِ الحُبُّ إِلَى غَيرِ الحَقِّ، وَمُبغِضٌ مُفرِطٌ يَذهَبُ بِهِ البُغضُ إِلَى غَيرِ الحَقِّ، وَخَيرُ النَّاسِ فِيَّ حَالًا النَّمَطُ الأَوسَطُ فَالزَمُوهُ، وَالزَمُوا السَّوَادَ الأَعظَمَ فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُم وَالفُرقَةَ فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيطَانِ كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الغَنَمِ لِلذِّئبِ"(٣).
ونحن نقول سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين، فلا نشك بأن من مصاديق خير الناس فيك حالاً اصحاب النمط الأوسط الذين اوصيتنا بلزموهم هم الفقهاء العدول المأمونون على الدين والدنيا، وهذا السيد الحكيم (قدس سره) أحدهم، يقول:
" إن عقيدة الفرقة المحقة ليس فيها غموض ولا إلتباس حيث تبدأ بالتوحيد والايمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وامامة الائمة المعصومين(عليهم السلام) مع عدم الاغراق والغلو في أمرهم وشأنهم وأنهم عبيد مخلوقون استأمنهم الله على دينه وعباده فهم حجة على عباده في أمر دينهم وخلفاؤه عليهم في أمر دنياهم ينبؤن بالصدق ويحكمون بالحق وقد تواصلت سلسلتهم المباركة والميمونة حتى وصلت إلى الامام المنتظر (عليه السلام) وقد غيبه الله عن شيعته إلى أن يأذن له باظهار دعوته واعلان كلمته. ولا سفارة بينه وبين أحد من شيعته وكل من يدعي خلاف ذلك كاذب مفتر، إلا أن الله سبحانه وتعالى لم يترك الناس في ظلمات الجهل فأخرجهم من حيرة الضلالة إلى نور الهدى بالعلماء والمجتهدين المتورعين حيث حملهم مسؤولية ارشاد الناس ببيان أحكام الشريعة وتوضيح معالمها ويدور الامر في ذلك مدار العلم والتقوى أينما كانا وفي أي شخص وجدا من دون تقييد بنسب ولا ميراث ولا عهد ولا وصية ولا غير ذلك مما يجعل هذا المنصب حكراً على جماعة خاصة وملكاً لهم يتحكمون فيه كما يشاؤون.
على هذا جرت الطائفة المحقة في العصور المتعاقبة حتى وصلت إلينا."(٤).
إذن مما ذكره السيد (قدس سره) في بداية حديثه هو عدم الاغراق والغلو في أمر، وشأن أهل البيت (عليهم السلام).
فهذا الأمر هو من العقيدة الصحيحة فيهم (عليهم السلام) وهو المناسب لمن يتبعهم ويقتدي بهم، ويتضح هذا الأمر في التعامل مع معاجزهم وكراماتهم ومقاماتهم (عليهم السلام)، فوقوع المعاجز والكرامات للمعصومين من الانبياء والأولياء (صلوات الله عليهم) مما لا شك فيه وقد ثبت ذلك بالأدلة القرآنية والأخبار المتواترة، والمستفيضة، فاليقين بوقوعها حاصل، والوقوع يثبت الأمكان بداهةً.
ومن الانبياء والأولياء المعصومين نبينا المصطفى، وإثنا عشر وصياً من عترته، وابنته الصديقة الزهراء (صلوات الله تعالى عليهم اجمعين)، وقد جرت على ايديهم الكثير من تلك المعاجز والكرامات الخارقة للعادة كشقّ القمر للنبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) و رَدّه الشمس، وتسبيح الحصى بيده الشريفة الى غيرها من المعاجز، وكحمل أمير المؤمنين (عليه السلام) لباب حصن خيبر، وأخباره بجملة من المغيبات كما فعل مع ميثم التمار، وغيره، وكقراءة رأس سيد الشهداء (عليه السلام) لآيات من القرآن بعد شهادته وهو على الرمح، وهكذا بقية المعصومين (عليهم السلام).
وبما ان شيعة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا أقلية (ولا زالوا) في واقع المسلمين، فإن إظهارهم لتلك الكرامات وبالخصوص لاهل البيت (عليهم السلام) وذكر مقاماتهم الرفيعة كان مُحارَباً سياسياً واجتماعياً (ولا زال ببعض البلدان) بحجج واهية أهمها الغلو، وذلك بسبب ظهور جماعة الغلاة فعلاً ممن نسبوا الالوهية لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وكذلك ظهور جماعة المُفوِّضة في عصر لاحق وكلا الجماعتين قد لُعِنوا من قبل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ولكن هذا لم يمنع الفرقة المحقة من إظهار كراماتهم (عليهم السلام) ورفعة مقامهم متى سنحت الفرصة لذلك.
وفي هذا الصدد كتب فقيدنا الكبير السيد الحكيم (قدس سره) ما نصه:
((… نرى الشيعة قد امتُحِنوا بالغلاة، الذين يرتفعون بأئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) عن مراتبهم التي رتبهم الله تعالى فيها إلى كونهم أنبياء أو آلهة.
وقد استغل ذلك أعداء الشيعة، فجعلوا الغلو والغلاة وسيلة للتشنيع على الشيعة والتشيع والتشهير بهما، من دون إنصاف ولا رحمة.
لكن الشيعة ـ مع شدة موقفهم من الغلاة، ومباينتهم لهم، وتصريحهم بكفرهم ـ لم يمنعهم ذلك من التركيز على رفعة مقام أهل البيت (صلوات الله عليهم) وبيان كراماتهم ومعاجزهم، ولم يحذروا أن يجرهم ذلك للغلو، أو يكون سبباً للتشنيع عليهم.
وذلك لأنهم على ثقة تامّة من قوة عقيدتهم بحدودها المباينة للغلو، وقوة أدلتها، بحيث لا يخشون من أن ينجرّوا من ذلك للغلو، أو يلتبس الأمر على جمهورهم بنحو يفقدهم السيطرة عليه.
ولو فرض أن حصل لبعض الناس نحو من الإيهام والالتباس سهل على علماء الشيعة السيطرة على ذلك، وكشف الإلتباس، ودفع الشبهة.))(٥)
ومقصود السيد الحكيم (قدس سره) من ذكر المعاجز والكرامات هو ما كان نسبته أليهم ثابتة بالدليل والحجة، لا أي شيء ينسب اليهم (عليهم السلام)، وادعاء وقوعه بلا حجة، فالموقف الصحيح في مثل ما يصادفنا من هذا القبيل هو التوقف وعدم النسبة.
وقد ذكر السيد الحكيم (قدس سره) هذا المطلب في سياق حديثه عن موقف الشيعة من المغالين بقوله:
(( الشيعة كالسنة يضللون المغالين، بل يكفرونهم. لكن ذلك مختص بما إذا رجع الغلو إلى الإخلال بالتوحيد، أو تجاوز مقام النبوة ـ ولو بدعوى النبوة لمن بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله) أو إنكار الضروري إنكاراً يرجع لردّ ما أنزل الله تعالى، وعدم التسليم به.
أما ما لا يرجع لذلك فهو لا يوجب الكفر ولا الضلال، كادعاء بعض الكرامات لأولياء الله تعالى، ورفعة مقامهم عنده.
غاية الأمر أنه لابد من إثبات ذلك بأدلة كافية وحجج وافية، ومع عدمها فلابد من التوقف، كما قال الله سبحانه وتعالى: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } وكما قال عز من قائل: { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } ))(٦)
إذن مجرد الإمكان لا يعني ادعاء الوقوع لقضية ما بلا دليل وحجة كافية، فان هذا من القول بغير علم المُحرَّم شرعاً، وان كان غير موجب للكفر، فعلى سبيل المثال: ان ثبوت الولاية التكوينية للنبي (صلى الله عليه وآله) وإمكان تصرفه في الأمور الكونية بإذن الله تعالى لا يسيغ لنا ادعاء ان النبي (صلى الله عليه وآله) قد فلق البحر كما فلقه موسى (عليه السلام) بلا دليل، أو أنه حرك جبلاً في مكة، ولا يصلح الامكان هنا دليلاً لاثبات وقوع قضية شخصية خارجية، فلا أحد يناقش من الشيعة المتثبتين بامكان جريان هكذا أُمور على يد النبي (صلى الله عليه وآله) وإنما الكلام في وقوعه، فلا يمكن القول به الا بالدليل الكافي الوافي كما قال سيدنا الراحل (قدس سره)، والا عُدَّ شهادة بغير علم سيُسأل عنها العبد ويحاسب عليها.
فكان هذا الطرح المبارك من سيدنا الفقيد (طاب ثراه) مثالاً للجادة الوسطى بين مضلة اليمين والشمال فلا تقصير في طرح ما ثبت من كراماتهم ومقاماتهم (عليهم السلام)، ولا يُترَك الحبل على الغارب لادعاء أي كرامة بدون دليل وحجة كافية.
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على محمد وآله ابدا.
عبدالناصر السهلاني
___________________
(١) نهج البلاغة: خطبة ١٦
(٢) نهج البلاغة: كتاب ٥٣
(٣) نهج البلاغة: خطبة ١٢٧
(٤) الفتاوى: ص٣٧٠
(٥) فاجعة الطف: ص٤٠٧-٤٠٨
(٦) في رحاب العقيدة: ج١، ص٢٩٨

|