• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : بحوث ودراسات .
                    • الموضوع : التفويـض التكويني .
                          • الكاتب : د . مظفر الشريفي .

التفويـض التكويني

بسم الله الرحمن الرحيم

بحث مُستل من كتاب (بل عبادٌ مكرمون- دراسة قرآنية وحديثية في نقد الغلوّ)

قال الله عزّ وجلّ:

{قُل مَن يَرزُقُكُم مِنَ السَّماءِ وَالأَرضِ أَمَّن يَملِكُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَمَن يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُل أَفَلا تَتَّقُونَ} [سورة يونس ع: 31]،
{هَذا خَلقُ اللهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة لقمان: 11]،
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ يُدَبِّرُ الأَمرَ ما مِن شَفِيعٍ إِلا مِن بَعدِ إِذنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُم فَاعبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [سورة يونس ع: 3]،
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ استَوَى عَلَى العَرشِ يُغشِي اللَّيلَ النَّهارَ يَطلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمرِهِ أَلا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ العالَمِينَ} [سورة الأعراف: 54]،
{وَللهِ غَيبُ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ فَاعبُدهُ وَتَوَكَّل عَلَيهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعمَلُونَ} [سورة هود ع: 123]،
{اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم ثُمَّ رَزَقَكُم ثُمَّ يُمِيتُكُم ثُمَّ يُحيِيكُم هَل مِن شُرَكائِكُم مَن يَفعَلُ مِن ذَلِكُم مِن شَيءٍ سُبحانَهُ وَتَعالَى عَمّا يُشرِكُونَ} [سورة الروم: ٤٠]،
{إِنَّ الَّذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ لا يَملِكُونَ لَكُم رِزقاً فَابتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزقَ وَاعبُدُوهُ وَاشكُرُوا لَهُ إِلَيهِ تُرجَعُونَ} [سورة العنكبوت: ١٧]،
{قُل أَرَأَيتُم ما تَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الأَرضِ أَم لَهُم شِركٌ فِي السَّماواتِ اِئتُونِي بِكِتابٍ مِن قَبلِ هَذا أَو أَثارَةٍ مِن عِلمٍ إِن كُنتُم صادِقِين * وَمَن أَضَلُّ مِمَّن يَدعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَستَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ القِيامَةِ وَهُم عَن دُعائِهِم غافِلُونَ} [سورة الأحقاف: 4-5]،
{الَّذِي لَهُ مُلكُ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَلَم يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقدِيراً * وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخلُقُونَ شَيئاً وَهُم يُخلَقُونَ وَلا يَملِكُونَ لِأَنفُسِهِم ضَرّاً وَلا نَفعاً وَلا يَملِكُونَ مَوتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً} [سورة الفرقان: 2-3]،
{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَا يَخلُقُونَ شَيئاً وَهُم يُخلَقُونَ} [سورة النحل: 20]،
{أَيُشرِكُونَ مَا لا يَخلُقُ شَيئاً وَهُم يُخلَقُونَ} [سورة الأعراف: 191]،
{فَسُبحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَإِلَيهِ تُرجَعُونَ} [سورة يس: 83]،
{تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ} [سورة المُلك: 1]،
{ما لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا يُشرِكُ فِي حُكمِهِ أَحَداً} [سورة الكهف: 26]،
{إِنَّ اللهَ فالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ * فالِقُ الإِصباحِ وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكَناً وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ حُسباناً ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ البَرِّ وَالبَحرِ قَد فَصَّلنا الآياتِ لِقَومٍ يَعلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِن نَفسٍ وَاحِدَةٍ فَمُستَقَرٌّ وَمُستَودَعٌ قَد فَصَّلنَا الآياتِ لِقَومٍ يَفقَهُونَ * وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخرَجنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيءٍ فَأَخرَجنا مِنهُ خَضِراً نُخرِجُ مِنهُ حَبّاً مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخلِ مِن طَلعِها قِنوانٌ دانِيَةٌ وَجَنّاتٍ مِن أَعنابٍ وَالزَّيتُونَ وَالرُّمّانَ مُشتَبِهاً وَغَيرَ مُتَشابِهٍ انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذا أَثمَرَ وَيَنعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُم لآياتٍ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ} [سورة الأنعام: 95-99].


يدّعي البعض أن الله تعالى قد فوّض لأهل البيت صلوات الله عليهم أمور الكون كالخلق والرزق والإحياء والإماتة. ويُقال إن القائلين بهذا انقسموا إلى اتجاهات: (أولها: إن الله تعالى قد فوّض للأئمة سلام الله عليهم أمور العالم، كالخالقية والرازقية والإحياء والإماتة، على نحو الاستقلال، بمعنى أنه سبحانه قد أمدّهم بذلك وترك لهم الأمر يتصرّفون فيه كيف يشاءون ولا علاقة له بذلك ... والاتجاه الثاني لا يقول بالاستقلال بالمعنى الأول وإنما يقول بالإفاضة الدائمة منه سبحانه، فهم يتصرفون في أمور العالم بإمداد وتفويض من الله تعالى، فكل أمور العالَم بيدهم صلوات الله عليهم، فهم الخالقون والمُحيْون والمميتون والرازقون، ولكن كل هذا بإفاضة الله تعالى عليهم في كل آنات التصرّف ... والاتجاه الثالث يقول أيضاً بوجود هذه القدرة عند أهل البيت صلوات الله عليهم ولكنهم لا يُعملونها إلا حينما يشاءون وليست مطلقة، بمعنى أنهم متى ما شاءوا أن يتصرفوا في شيء من الأمور الكونية من خلق ورزق وإحياء وإماتة فالأمر بيدهم صلوات الله عليهم ... والفرق بين هذا الاتجاه وسابقه هو أن أصحاب الاتجاه الثاني يقولون إن جميع أمور الخلق قد فُوِّضت لأهل البيت صلوات الله عليهم بصورة دائمة ومطلقة، وهم المتصرفون في الكون لا غير، بينما أصحاب الاتجاه الثالث يذهبون إلى أن الأمور الكونية وإن وُكلت إليهم بشكل فعلي ومطلق أيضاً بحيث تكون أزمّة أمور الكون كلها بيدهم صلوات الله عليهم كخلق أي شيء يريدون خلقه وإحياء أي ميت من الخلق وإماتة أي حي يشاءون موته ورزق أي مخلوق كان، إلا أنهم لا يباشرون هذا التفويض إلا في بعض الأحيان، كما لو اقتضت المصلحة ذلك)[1].

إن جميع هذه الاتجاهات تخالف صريح القرآن الكريم كما في الآيات المذكورة آنفاً كقوله تعالى: {وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ}، وآيات أخرى كقوله جلّ وعلا: {قُل إِنَّ الأَمرَ كُلَّهُ للهِ} [سورة آل عمران: 154] وقوله سبحانه: {لَيسَ لَكَ مِنَ الأَمرِ شَيءٌ أَو يَتُوبَ عَلَيهِم أَوْ يُعَذِّبَهُم فَإِنَّهُم ظالِمُونَ} [سورة آل عمران: 128]. فالأمر المذكور في أي من هذه الآيات إن كان أمراً عاماً شاملاً أو أمراً خاصاً فهو بيد الله وحده. وكقوله تبارك اسمه: {اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ وَكِيلٌ} [سورة الزمر: 62]، وهنا ما دام الله تعالى وكيلاً على كل شيء فأي معنى بقي للتفويض المزعوم؟ لأن التفويض يعني أن للمفوَّض إليه سلطنة ووكالة على ما فُوِّض فيه، ولو كان الأمر كله لله سبحانه وليس للنبي صلى الله عليه وآله منه شيء والوكالة له جلّت قدرته كما تذكر الآيات أعلاه فلماذا يُسمونه تفويضاً أصلاً؟

ويَرُدُّ أيضاً على هذه الدعاوى ما ذكرناه في موضوع الولاية التكوينية بأن هذا مجرد افتراضات لا واقع لها، ولا يوجد شاهد خارجي يورث العلم بأن أهل البيت صلوات الله عليهم مفوّضون فعلاً. وحتى لو ورد في بعض أخبار الآحاد - التي هي بطبيعتها لا تفيد علماً حتى لو كانت صحيحة السند - بأن أحدهم صلوات الله عليهم قد فعل شيئاً ما من هذا القبيل فهو تسليط من الله تعالى للمعصوم سلام الله عليه على فعلٍ محدّد فحسب، ولا دلالة على وجود تفويض أو قدرة عنده على فعل كل شيء. وهذا التفويض أو القدرة التفويضية الشاملة المزعومة لأهل البيت صلوات الله عليهم تخالف صريح القرآن الكريم وما تواتر من سيرتهم صلوات الله عليهم وأحاديثهم وأدعيتهم المشحونة بإظهار فقرهم الفعلي الذي ينافي هذا التفويض. بل إن دعائهم بحدِّ ذاته يكشف فقدهم لهذا التفويض، لأنهم لو كانوا يملكونه لمَا احتاجوا للدعاء أصلاً.

ومن حقنا أن نسأل: لو كان للتفويض المزعوم وجود فلماذا لم يبينه القرآن الكريم رغم أهميته البالغة واحتياج الناس لمعرفته وبيّنَ ما هو أدنى منه أهمية كبعض الأحكام الفقهية وغيرها؟ وقد قال تعالى: {ما فَرَّطنا فِي الكِتابِ مِن شَيءٍ} [سورة الأنعام: 38] وقال سبحانه: {إِنَّ هَذا القُرآنَ يَهدِي لِلَّتِي هِيَ أَقوَمُ} [سورة الإسراء: 9] وقال جلّ شأنه: {وَنَزَّلنا عَلَيكَ الكِتابَ تِبياناً لِكُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً وَبُشرَى لِلمُسلِمِينَ} [سورة النحل: 89]. وعن الإمام الرضا سلام الله عليه: ﴿إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لَم يَقبِض نَبِيَّه صلى الله عليه وآله حَتَّى أَكمَلَ لَه الدِّينَ وأَنزَلَ عَلَيه القُرآنَ فِيه تِبيانُ كُلِّ شَيءٍ، بَيَّنَ فِيه الحَلالَ والحَرامَ والحُدُودَ والأَحكامَ وجَمِيعَ ما يَحتاجُ إِلَيه النّاسُ كَمَلاً، فَقالَ عَزَّ وجَلَّ: {ما فَرَّطنا فِي الكِتابِ مِن شَيءٍ} وأَنزَلَ فِي حَجَّةِ الوَداعِ وهِيَ آخِرُ عُمُرِه صلى الله عليه وآله: {اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِيناً}﴾[2].

ولو قيل بأن القرآن قد أحال الى السنة في هذا الأمر، فأين هذه السنّة الدالّة على دعواهم؟ والتي يلزم أن تكون واضحة الدلالة وقطعية الصدور كي تورث العلم بها. ولماذا لم يعلمها علماؤنا الأقدمون الذين كانوا أقرب إلى عصر الأئمة سلام الله عليهم وفهموا السنة فهماً راقياً قبل أن يتسلل فكر الصوفية وابن عربي وأفكار اليونانيين وغيرهم إلينا؟ وما دام الأمر بهذه الأهمية الكبرى فكيف يكتفي مدّعوه بأخبار آحاد لا يمكن القطع بصدورها عن الأئمة سلام الله عليهم؟ ألا يشكل هذا خللاً في أولويات هذا الدِّين الذي بيّن بصورة قطعية ما هو أقل أهمية ولم يبين هذا الأمر المهم جداً؟ وقد قال تعالى: {اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِيناً} [سورة المائدة: 3]. ألا يُدرك هؤلاء أنهم بقبولهم هكذا أخبار إنما يجعلون كلام أهل البيت صلوات الله عليهم مناقضاً للكتاب الكريم ولباقي كلام أهل البيت أنفسهم كما بيّنا؟ أي إنهم يقدحون من حيث لا يشعرون بعصمة أهل البيت صلوات الله عليهم بسبب مخالفتهم لكتاب ربهم وتناقضهم مع أنفسهم حسب نتيجة هذه الأقوال المزعومة.

هذا وقد ورد عن أئمة الهدى سلام الله عليهم في كتب علمائنا الأقدمين ما ينفي التفويض التكويني المطلق، فقد روى الشيخ الصدوق عن زرارة أنه قال: (قلت للصادق عليه السلام: إن رجلاً من ولد عبد الله بن سبأ يقول بالتفويض. قال عليه السلام: ﴿وما التفويض؟﴾ قلت: يقول: إن الله عزّ وجلّ خلق محمداً صلى الله عليه وآله وعلياً عليه السلام ثم فوّض الأمر إليهما، فخلقا ورزقا وأحييا وأماتا. فقال عليه السلام: ﴿كذب عدو الله، إذا رجعت إليه فاقرأ عليه الآية التي في سورة الرعد: {أَم جَعَلُوا للهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلقِهِ فَتَشابَهَ الخَلقُ عَلَيهِم قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الواحِدُ القَهّارُ}﴾. فانصرفت إلى الرجل فأخبرته بما قال الصادق عليه السلام فكأنما ألقمته حجراً، أو قال: فكأنما خرس)[3].

وعن الإمام الرضا سلام الله عليه: ﴿من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها فقد قال بالجبر، ومن زعم أن الله عزّ وجلّ فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام فقد قال بالتفويض. والقائل بالجبر كافر والقائل بالتفويض مشرك﴾[4].

وعنه أيضاً سلام الله عليه: ﴿إن الله تبارك وتعالى فوّض إلى نبيه صلى الله عليه وآله أمر دينه فقال: {ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُم عَنهُ فانتَهُوا}، فأما الخلق والرزق فلا ... إن الله عزّ وجلّ يقول: {اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ}، ويقول: {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم ثُمَّ رَزَقَكُم ثُمَّ يُمِيتُكُم ثُمَّ يُحيِيكُم هَل مِن شُرَكائِكُم مَن يَفعَلُ مِن ذَلِكُم مِن شَيءٍ سُبحانَهُ وَتَعالَى عَمّا يُشرِكُونَ}﴾[5].

وعن الإمام الحجة سلام الله عليه: ﴿إن الله تعالى هو الذي خلق الأجسام وقسّم الأرزاق، لأنه ليس بجسم ولا حال في جسم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأما الأئمة عليهم السلام فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق ويسألونه فيرزق، إيجاباً لمسألتهم وإعظاماً لحَقِّهم﴾[6].

الفرق بين التفويض التكويني والتشريعي

ينبغي التنبه إلى الفرق بين التفويض التكويني والتفويض التشريعي، وما ننقده هنا هو دعوى التفويض التكويني. أما التفويض التشريعي فقد وردت فيه روايات كما عَن الإمام الصادق سلام الله عليه: ﴿إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ أَدَّبَ نَبِيَّه فَأَحسَنَ أَدَبَه. فَلَمّا أَكمَلَ لَه الأَدَبَ قالَ: {إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيه أَمرَ الدِّينِ والأُمَّةِ لِيَسُوسَ عِبادَه، فَقالَ عَزَّ وجَلَّ: {ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وما نَهاكُم عَنه فَانتَهُوا}. وإِنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله كانَ مُسَدَّداً مُوَفَّقاً مُؤَيَّداً بِرُوحِ القُدُسِ لا يَزِلُّ ولا يُخطِئُ فِي شَيءٍ مِمّا يَسُوسُ بِه الخَلقَ، فَتَأَدَّبَ بِآدابِ الله. ثُمَّ إِنَّ الله عَزَّ وجَلَّ فَرَضَ الصَّلاةَ رَكعَتَينِ رَكعَتَينِ عَشرَ رَكَعاتٍ، فَأَضافَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله إِلَى الرَّكعَتَينِ رَكعَتَينِ وإِلَى المَغرِبِ رَكعَةً، فَصارَت عَدِيلَ الفَرِيضَةِ لا يَجُوزُ تَركُهُنَّ إِلا فِي سَفَرٍ. وأَفرَدَ الرَّكعَةَ فِي المَغرِبِ فَتَرَكَها قائِمَةً فِي السَّفَرِ والحَضَرِ، فَأَجازَ الله عَزَّ وجَلَّ لَه ذَلِكَ كُلَّه، فَصارَتِ الفَرِيضَةُ سَبعَ عَشرَةَ رَكعَةً. ثُمَّ سَنَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله النَّوافِلَ أَربَعاً وثَلاثِينَ رَكعَةً مِثلَيِ الفَرِيضَةِ، فَأَجازَ الله عَزَّ وجَلَّ لَه ذَلِكَ، والفَرِيضَةُ والنّافِلَةُ إِحدَى وخَمسُونَ رَكعَةً، مِنها رَكعَتانِ بَعدَ العَتَمَةِ جالِساً تُعَدُّ بِرَكعَةٍ مَكانَ الوَترِ. وفَرَضَ الله فِي السَّنَةِ صَومَ شَهرِ رَمَضانَ وسَنَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله صَومَ شَعبانَ وثَلاثَةَ أَيّامٍ فِي كُلِّ شَهرٍ مِثلَيِ الفَرِيضَةِ، فَأَجازَ الله عَزَّ وجَلَّ لَه ذَلِكَ. وحَرَّمَ الله عَزَّ وجَلَّ الخَمرَ بِعَينِها وحَرَّمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله المُسكِرَ مِن كُلِّ شَرابٍ، فَأَجازَ الله لَه ذَلِكَ كُلَّه. وعافَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله أَشياءَ وكَرِهَها ولَم يَنه عَنها نَهيَ حَرامٍ، إِنَّما نَهَى عَنها نَهيَ إِعافَةٍ وكَراهَةٍ، ثُمَّ رَخَّصَ فِيها، فَصارَ الأَخذُ بِرُخَصِه واجِباً عَلَى العِبادِ كَوُجُوبِ ما يَأخُذُونَ بِنَهيِه وعَزائِمِه، ولَم يُرَخِّص لَهُم رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله فِيما نَهاهُم عَنه نَهيَ حَرامٍ ولا فِيما أَمَرَ بِه أَمرَ فَرضٍ لازِمٍ، فَكَثِيرُ المُسكِرِ مِنَ الأَشرِبَةِ نَهاهُم عَنه نَهيَ حَرامٍ لَم يُرَخِّص فِيه لأَحَدٍ، ولَم يُرَخِّص رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله لأَحَدٍ تَقصِيرَ الرَّكعَتَينِ اللَّتَينِ ضَمَّهُما إِلَى ما فَرَضَ الله عَزَّ وجَلَّ، بَل أَلزَمَهُم ذَلِكَ إِلزاماً واجِباً لَم يُرَخِّص لأَحَدٍ فِي شَيءٍ مِن ذَلِكَ إِلا لِلمُسافِرِ، ولَيسَ لأَحَدٍ أَن يُرَخِّصَ شَيئاً ما لَم يُرَخِّصه رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله. فَوافَقَ أَمرُ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله أَمرَ الله عَزَّ وجَلَّ ونَهيُه نَهيَ الله عَزَّ وجَلَّ، ووَجَبَ عَلَى العِبادِ التَّسلِيمُ لَه كَالتَّسلِيمِ لله تَبارَكَ وتَعالَى﴾[7].

وقد ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي أن المستفاد من مجموع الروايات الواردة في باب التفويض هو أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله قام بالتشريع في موارد محدودة بإذن الله تعالى (ولعلها لم تتجاوز حدود العشرة موارد)، وأنّ الله تعالى قد أمضى هذا الأمر. وبعبارة أخرى، أنّ الله تعالى قد أعطاه هذه الصلاحية في قيامه بالتشريع في بعض الموارد، ومن ثم أمضاها الله تعالى[8].

ثم قال: (إنّ هذا التفويض لا يتمتع بصفة الكلية والشمول، بل يتحقق في موارد محدودة ومعدودة، ولهذا السبب كان الرسول صلى الله عليه وآله ينتظر نزول الوحي في الأمور المهمّة الّتي كان المسلمون يسألونه عنها غالباً، وهذا دليل على عدم شمول التفويض، وإلا لما دعت الضرورة إلى أن ينتظر الرسول صلى الله عليه وآله نزول الوحي، بل كان بمقدوره أن يشرّع أي قانون يراه، فتأمل)، ثم قال: (بالرغم من أنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام كانوا مؤيَّدين بروح القدس، ولم يصدر عنهم أي خطأ أو انحراف إطلاقاً، إلا أنّهم لم يصدروا تشريعاً جديداً، لإنّه بعد إكمال الدين وإتمام النعمة الإلهية، فإنّ جميع الأحكام الّتي تحتاجها الأمة إلى يوم القيامة وطبقاً للروايات الكثيرة الّتي قد تصل إلى حد التواتر، قد تمَّ تشريعها ولم يبق مجال لأي تشريع جديد، وبناءً على ذلك فإنّ واجب الأئمّة المعصومين عليهم السلام اقتصر على توضيح وتبيين الأحكام الّتي وصلت إليهم عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله سواء بدون واسطة أو بالواسطة).

وتعقيباً على هذا الكلام نقول إن من لم يُمنح ولاية تشريعية فِعلية كيف تكون له ولاية تكوينية؟ والحال أن الولاية التكوينية المزعومة هي أكبر أثراً ووقعاً من الولاية التشريعية، أي مَن لم يُمنح الصغير منهما، فكيف يُمنح الكبير؟!

أقوال علمائنا حول التفويض والمفوِّضة

وتتميماً للفائدة ننقل كلمات بعض علمائنا عن المفوضة ونفي التفويض في أمر الخلقة:

قال الشيخ الصدوق: (اعتقادنا في الغلاة والمفوضة أنهم كفار بالله تعالى، وأنهم أشر من اليهود والنصارى والمجوس والقدرية والحرورية ومن جميع أهل البدع والأهواء المضلة، وأنه ما صغّر الله جلّ جلاله تصغيرهم شيء)[9].
قال الشيخ المفيد: (والمفوضة صنف من الغلاة، وقولهم الذي فارقوا به من سواهم من الغلاة اعترافهم بحدوث الأئمة وخلقهم ونفي القدم عنهم وإضافة الخلق والرزق مع ذلك إليهم، ودعواهم أن الله سبحانه وتعالى تفرد بخلقهم خاصة، وأنه فوض إليهم خلق العالم بما فيه وجميع الأفعال)[10].
قال العلامة المجلسي: (وأما التفويض فيطلق على معان بعضها منفي عنهم عليهم السلام وبعضها مثبت لهم، فالأول التفويض في الخلق والرزق والتربية والإماتة والاحياء، فإن قوماً قالوا: إن الله تعالى خلقهم وفوّض إليهم أمر الخلق فهم يخلقون ويرزقون ويميتون ويحيون، وهذا الكلام يحتمل وجهين:
أحدهما، أن يقال: إنهم يفعلون جميع ذلك بقدرتهم وإرادتهم وهم الفاعلون حقيقة، وهذا كفر صريح دلت على استحالته الأدلة العقلية والنقلية، ولا يستريب عاقل في كفر من قال به.

وثانيهما: أن الله تعالى يفعل ذلك مقارناً لإرادتهم كشق القمر وإحياء الموتى وقلب العصا حية وغير ذلك من المعجزات، فإن جميع ذلك إنما تحصل بقدرته تعالى مقارناً لإرادتهم لظهور صدقهم، فلا يأبى العقل عن أن يكون الله تعالى خلقهم وأكملهم وألهمهم ما يصلح في نظام العالم، ثم خلق كل شيء مقارناً لإرادتهم ومشيتهم. وهذا وإن كان العقل لا يعارضه كفاحاً لكن الاخبار السالفة تمنع من القول به فيما عدا المعجزات ظاهراً بل صراحاً، مع أن القول به قول بما لا يعلم إذ لم يرد ذلك في الأخبار المعتبرة فيما نعلم. وما ورد من الأخبار الدالة على ذلك كخطبة البيان وأمثالها فلم يوجد إلا في كتب الغلاة وأشباههم، مع أنه يحتمل أن يكون المراد كونهم علة غائية لإيجاد جميع المكونات، وأنه تعالى جعلهم مُطاعين في الأرضين والسماوات، ويطيعهم بإذن الله تعالى كل شيء حتى الجمادات، وأنهم إذا شاءوا أمراً لا يرد الله مشيتهم، ولكنهم لا يشاءون إلا أن يشاء الله. وأما ما ورد من الاخبار في نزول الملائكة والروح لكل أمر إليهم وأنه لا ينزل ملك من السماء لأمر إلا بدأ بهم فليس ذلك لمدخليتهم في ذلك، ولا الاستشارة بهم، بل له الخلق والامر تعالى شأنه، وليس ذلك إلا لتشريفهم وإكرامهم وإظهار رفعة مقامهم.

الثاني، التفويض في أمر الدين، وهذا أيضا يحتمل وجهين:

أحدهما أن يكون الله تعالى فوّض إلى النبي والأئمة عليهم السلام عموماً أن يحلوا ما شاءوا ويحرموا ما شاءوا من غير وحي وإلهام أو يغيروا ما أوحى إليهم بآرائهم. وهذا باطل لا يقول به عاقل، فإن النبي صلى الله عليه وآله كان ينتظر الوحي أياما كثيرة لجواب سائل ولا يجيبه من عنده، وقد قال تعالى: {وَما يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحيٌ يُوحَى}.

وثانيهما: أنه تعالى لما أكمل نبيه صلى الله عليه وآله بحيث لم يكن يختار من الأمور شيئاً إلا ما يوافق الحق والصواب، ولا يحل بباله ما يخالف مشيته تعالى في كل باب، فوّض إليه تعيين بعض الأمور كالزيادة في الصلاة وتعيين النوافل في الصلاة والصوم وطعمة الجد وغير ذلك مما مضى وسيأتي إظهاراً لشرفه وكرامته عنده، ولم يكن أصل التعيين إلا بالوحي، ولم يكن الاختيار إلا بالهام، ثم كان يؤكد ما اختاره صلى الله عليه وآله بالوحي، ولا فساد في ذلك عقلاً. وقد دلت النصوص المستفيضة عليه مما تقدم في هذا الباب وفي أبواب فضائل نبينا صلى الله عليه وآله من المجلد السادس. ولعل الصدوق رحمه الله أيضاً إنما نفى المعنى الأول وحيث قال في الفقيه: وقد فوض الله عزّ وجلّ إلى نبيه صلى الله عليه وآله أمر دينه ولم يفوض إليه تعدي حدوده. وأيضاً هو رحمه الله قد روى كثيراً من أخبار التفويض في كتبه ولم يتعرض لتأويلها.

الثالث: تفويض أمور الخلق إليهم من سياستهم وتأديبهم وتكميلهم وتعليمهم وأمر الخلق بإطاعتهم فيما أحبوا وكرهوا وفيما علموا جهة المصلحة فيه وما يعلموا وهذا حق لقوله تعالى: {ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُم عَنهُ فانتَهُوا} وغير ذلك من الآيات والاخبار، وعليه يحمل قولهم عليهم السلام: ﴿نحن المحللون حلاله والمحرمون حرامه﴾ أي بيانهما علينا ويجب على الناس الرجوع فيهما إلينا، وبهذا الوجه ورد خبر أبي إسحاق والميثمي.

الرابع: تفويض بيان العلوم والأحكام بما رأوا المصلحة فيها بسبب اختلاف عقولهم، أو بسبب التقية فيفتون بعض الناس بالواقع من الاحكام، وبعضهم بالتقية ويبينون تفسير الآيات وتأويلها، وبيان المعارف بحسب ما يحتمل عقل كل سائل، ولهم أن يبينوا ولهم أن يسكتوا كما ورد في أخبار كثيرة: ﴿عليكم المسألة وليس علينا الجواب﴾ كل ذلك بحسب ما يريهم الله من مصالح الوقت كما ورد في خبر ابن أشيم وغيره. وهو أحد معاني خبر محمد بن سنان في تأويل قوله تعالى: {لِتَحكُمَ بَينَ النّاسِ بِما أَراكَ اللهُ}. ولعل تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام لعدم تيسر هذه التوسعة لسائر الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، بل كانوا مكلفين بعدم التقية في بعض الموارد وإن أصابهم الضرر، والتفويض بهذا المعنى أيضاً ثابت حق بالأخبار المستفيضة.

الخامس: الاختيار في أن يحكموا بظاهر الشريعة أو بعلمهم وبما يلهمهم الله من الواقع ومخ الحق في كل واقعة، وهذا أظهر محامل خبر ابن سنان وعليه أيضاً دلّت الاخبار.

السادس: التفويض في العطاء، فإن الله تعالى خلق لهم الأرض وما فيها وجعل لهم الأنفال والخمس والصفايا وغيرها، فلهم أن يعطوا ما شاؤوا ويمنعوا ما شاؤوا، كما مر في خبر الثمالي وسيأتي في مواضعه، وإذا أحطت خبراً بما ذكرنا من معاني التفويض سهل عليك فهم الأخبار الواردة فيه وعرفت ضعف قول من نفى التفويض مطلقاً ولما يحط بمعانيه)[11].

قال السيد الخوئي "وقد نقلنا هذا الكلام سابقاً، ونكرره هنا لأهميته ومناسبته لموضوعنا": (ومنهم من ينسب إليه الاعتراف بألوهيته سبحانه إلا أنّه يعتقد أنّ الأُمور الراجعة إلى التشريع والتكوين كلها بيد أمير المؤمنين أو أحدهم عليهم السلام، فيرى أنّه المحيي والمميت وأنّه الخالق والرازق وأنّه الذي أيّد الأنبياء السالفين سرّاً وأيّد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله جهراً. واعتقادهم هذا وإن كان باطلاً واقعاً وعلى خلاف الواقع حقاً، حيث إنّ الكتاب العزيز يدل على أن الأُمور الراجعة إلى التكوين والتشريع كلَّها بيد الله سبحانه، إلا أنّه ليس مما له موضوعية في الحكم بكفر الملتزم به. نعم، الاعتقاد بذلك عقيدة التفويض لأنّ معناه أنّ الله سبحانه كبعض السلاطين والملوك قد عزل نفسه عما يرجع إلى تدبير مملكته وفوّض الأمور الراجعة إليها إلى أحد وزرائه، وهذا كثيراً ما يتراءى في الأشعار المنظومة بالعربية أو الفارسية، حيث ترى أن الشاعر يسند إلى أمير المؤمنين عليه السلام بعضاً من هذه الأُمور. وعليه فهذا الاعتقاد إنكار للضروري، فإنّ الأُمور الراجعة إلى التكوين والتشريع مختصّة بذات الواجب تعالى)[12].
قال السيد الخميني: (وكالاعتقاد بأن الله تعالى فوض أمر الخلق مطلقاً إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فهو بتفويض الله تعالى إليه خالق ما يرى وما لا يرى، ورازق من ورى، وأنه محيي ومميت إلى غير ذلك من الدعاوي الفاسدة، فإن شيئاً منها لا يوجب الكفر، وإن كان غلواً وكان الأئمة عليهم السلام يبرؤون منها وينهون الناس عن الاعتقاد بها)[13].
قال السيد محمد باقر الصدر: (وأما الغلوّ بلحاظ الصفات والأفعال بمعنى نسبة صفة أو فعل لشخص ليس على مستواهما، فإن كان اختصاص تلك الصفة أو الفعل بالله تعالى من ضروريات الدين دخل في إنكار الضروري على الخلاف المتقدم فيه وإلا لم يكن كفراً. ويدخل في الأول: ادعاء تفويض الأمر من الله تعالى لأحد من عباده، ونسبة الخلق، والإحياء، والإماتة، ونحو ذلك من أنحاء التدبير الغيبي لهذا العالم إلى أحد من الناس)[14].
يلاحَظ هنا أن السيد رحمه الله تعالى ذكر بأن القائلين بالتفويض منكرون لضروري الدين.

قال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي تحت عنوان "التفويض في أمر الخلقة": (ولا إشكال أيضاً في بطلانه، إذا كان المراد التفويض الكلّي بمعنى أن الله خلق رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمّة المعصومين وجعل أمر خلق العالم ونظامه وتدبيره إليهم، فإنه شرك بيّن. ومخالف لآيات القرآن المجيد، الظاهرة، بل الصريح في أن أمر الخلق والرزق والربوبية وتدبير العالم بيد الله تعالى لا غيره. نعم يظهر من بعض كلمات العلامة المجلسي معنى آخر للتفويض الكلّي بمعنى جريان مشية الله على الخلق والرزق مقارناً لإرادتهم ومشيتهم، وأنه لا يمنع العقل من ذلك، ولكن صرّح بأن ظاهر الأخبار بل صريحها بطلان ذلك، ولا أقل من أن القول به قول بما لا يعلم. قلت: بل ظاهر الآيات القرآنية مخالف له أيضاً، وإن أمر الخلق والرزق والإماتة والإحياء بيد الله ومشيته لا غير. نعم ورد في بعض الروايات الضعيفة مثل خطبة البيان التي نقلها المحقّق القمي قدس سره في جامع الشتات مع الطعن فيها، أن أمرها بيد الأئمّة عليهم السلام أو بيد أمير المؤمنين علي عليه السلام، لكنّه ضعيف جداً مخالف لكتاب الله عزّ وجلّ. ولكن ظاهره المعنى الأوّل الذي لا يمكن القول به، ولا يوافق الكتاب ولا السنّة، بل قد عرفت أنه نوع من الشرك أعاذنا الله تعالى منه. قال الله تعالى {أَم جَعَلُوا للهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلقِهِ فَتَشابَهَ الخَلقُ عَلَيهِم قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ الواحِدُ القَهّارُ} [سورة الرعد: 16])[15].
قال السيد كاظم الحائري: (إنّ التفويض له معنيان وشِقّان: فتارةً يُفترض أنّ الله تعالى فوّض العالم إلى عباده وهو كأنّما ترك العالم، وعبادُه يفعلون ما يريدون. واُخرى يفترض: أنّ الله تبارك وتعالى فوّض العالم إلى قسم من عباده فقط وهم المعصومون عليهم السلام. وهذا التفويض بشقّيه يخالف ظاهر الآيات المباركة التي تسند الاُمور دائماً ومباشرة إلى الله تعالى كما في الآيات التي أشرنا إليها، منها قوله تعالى: {ألا لَهُ الخَلقُ وَالأَمرُ}، وقوله تعالى: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ}، وقوله تعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوتِها}، وقوله تعالى: {لَن يُصِيبَنا إِلا ما كَتَبَ اللهُ لَنا}، وما شابه ذلك)[16].

[1]) الولاية التكوينية بين القرآن والبرهان، ص 62 وما بعدها.

[2]) الكافي، ج ١، ص 198.

[3]) الاعتقادات في دين الإمامية، ص 100.

[4]) عيون أخبار الرضا ع، ج 1، ص 114.

[5]) عيون أخبار الرضا ع، ج ٢، ص ٢١٩.

[6]) الغَيبة، ص ٢٩٣. وأيضاً في الاحتجاج، ج 2، ص 284.

[7]) الكافي، ج ١، ص 266.

[8]) نفحات القرآن، ج ١٠، ص 81.

[9]) الاعتقادات في دين الإمامية، ص 97.

[10]) تصحيح اعتقادات الإمامية، ص ١٣٣.

[11]) بحار الأنوار، ج ٢٥، ص 347.

[12]) كتاب الطهارة من تقرير بحثه في شرح العروة الوثقى، ج ٣، ص 68.

[13]) كتاب الطهارة (ط. ق)، ج ٣، ص ٣٣٩.

[14]) بحوث في شرح العروة الوثقى، ج ٣، ص 306.

[15]) بحوث فقهية مهمة، ص 548 وما بعدها.

[16]) الإمامة وقيادة المجتمع، ص 150.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=183675
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 06 / 27
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15