تحدث الرسول الاكرم في أكثر من مناسبة وفي أكثر من موقف كحديث (الثقلين) المعروف الذي تناقلته كتب الحديث المعتبرة عند المسلمين كافة بمختلف مذاهبهم، وقرن فيه أهل بيته الكرام بالقران المجيد، وجعلهما ـ مَجتَمعَينِ ـ أماناً من الضلالة حتى ورود الحوض عليه يوم الفزع الأكبر، ما كان مدفوعاً بعاطفة حب القرابة أو بأية عاطفةٍ أخرى أو بهوى وجدهِ في نفسه، فالقرآن الكريم وبلسان عربي مبين برأه من ذلك في قوله تعالى: ((وَما يَنْطِقُ عَنِ الهوى * إنْ هُوَ إلّا وَحْيٌ يوُحى * عَلَّمّهُ شَديدُ القوى)) (النجم:3-5).
ومثله كان الإمام علي (عليه السلام) وهو يشيد بالعترة الطاهرة؛ لأنه يدور مع الحق حيثما دار، فكان وصفه لهم ينطلق من هذا الحق ولا يتجاوز ما هم أهل له منه.
1. أهل البيت وفضلهم عند الله تعالى:
لما كان أهل البيت (عليهم السلام) الموضع الأمين، القوي، فقد وجده الله أهلاً لحفظ دينه، والمكان الحصين الذي يودع فيه أسراره، والمعقل الذي يأتمنه على معالم شريعته، ووعاءً قوياً يحفظها من كل شائبةٍ أو عيبٍ، ولقوة هذا المكان الحصين فقد كنّى ـ عليه السلام ـ أهل بيته ـ بأنهم الجبال الشامخات والكهوف الحصينة، وهم الأساس الصلب الذي يرتكز عليه دين الله، وينبثق منه يقين الموقنين، إليهم يرجع التائبون، ولهذا كان لهم حق الولاية على بني البشر، فهم أوصياء جدهم المبعوث رحمة للعالمين وورثة علمه.
يقول عليه السلام: (وهم موضعُ سِرّهِ ولجأُ أمرِهِ وعَيبَةُ علمِهِ ومَوئِلُ حُكمِهِ وكهوفُ كُتُبِهِ وجبالُ دينهِ).
(هُمْ أساسُ الدينِ وَعِمادُ اليَقينِ إليهِمْ يفيءُ الغالي وبهِمْ يَلحَقُ التالي ولَهُمْ حقُّ الولايةٍ وفيهم الوَصيّةُ والوِراثَة).
2. أهل البيت (عليهم السلام) والرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ما كان لأهل البيت (عليهم السلام) هذه المنزلة العالية عند الله تعالى إلا لأنهم مستحقون لها، فهم مبرؤون من كل دنس منزهون من كل رجس مطهرون من الله تطهيراً، هذا أولا، وثانيا: لأنهم الشجرة الرسالية الوارفة الظلال، امتداداً لرسالة الرسول حتى يرث الله الأرض ومن عليها، تلك شجرة النبوة، وهم (عليهم السلام) أغصانها وثمارها، تحت ظل تلك الشجرة حط الله رسالته، فكانت موئلاُ لملائكته يختلفون إليها في كل حين، ويختلف إليها من طلب علماً أو حكمةً أو من أراد الارتواء من المنهل الصافي من ينبوعهم النقي، فيجد ذلك قريباً ومطلبه سهلاً.
يقول (عليه السلام):- (نَحنُ شَجَرةُ النُّبوةِ ومَحطُّ الرِّسالَةِ ومَختَلَفُ الملائكةِ ومعادِنُ العِلمِ ويَنابيعُ الحكم).
ويقول (عليه السلام):- (أُسرَتُهُ خَيْرُ الأُسَرْ وشَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرةٍ أغصانُها مُعتدِلة وثمارُها مُتَهَدِّلَةٌ).
3. علم أهل البيت (عليهم السلام):
إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد فتح لكبير اهل بيته من بعده علي(عليه السلام) ألف باب من العلم ينفتح له من كل باب ألف باب، فمن أولى بهم بولوج مدرسة الإسلام الكبرى المشرعة أبوابها، يتدارسون فيها قرآن ربهم المجيد وسنته الشريفة، فمفاتيحها في أيديهم، وهم خزنة العلم وأبوابه، والدالون عليه، فمن أتى غيرهم عاد خائباً بخفي حنين، ومن طلبه من سواهم لم يجد إلا سراباً، فهم الوعاء الذي وعى من القران كرائمه، وكيف لا يكونون كذلك، وهم الكنوز التي قدمتها يد الرحمن الكريمة لبني البشر، وطبعتها بطابع الصفات الكريمة والسجايا الفاضلة، فكلامهم الصدق وصمتهم أفضل من أشرف كلام، فهم رواد أهل الحق ولابد أن يصدق الرائد أهله.
يقول (عليه السلام):- (نحنُ الشّعارُ والأصحابُ والخَزَنَةُ والأبوابُ ولا تُؤتى البُيوتَ إلا من أبوابِها فَمنْ أتاها من غيرِ أبوابها سُمِّيَ سارقاً).
ويقول (عليه السلام):- (فَهُمْ كَرائِمُ القرآنِ وَهُم كُنوزُ الرحمنِ إن نَطَقوا صَدَقوا وإنْ صَمَتوا لًم يُسبقُوا فَلْيَصدُقْ رائدٌ أهلهُ).
4. منطق أهل البيت (عليهم السلام) وشيء من صفاتهم الأخرى:
إذا كان كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) فوق كلام المخلوقين وتحت كلام الخالق ـ كما هو كذلك ـ فأهل البيت (عليهم السلام) كلهم أمراء الكلام وقادته، ففي أبياتهم نبتت عروق الفصاحة، وبين جدرانها تهدلت وتدنت غصون البلاغة.
يقول (عليه السلام):- (وإنّا لأُمراءُ الكلامِ وفينا تَنَشَّبتْ عُروقهُ وَعَلينا تَهدَّلتْ غُصونًهً).
ويتنقل الإمام (عليه السلام) بين صفات أهل البيت، فيمر عليها صفة بعد أخرى، فهم الذين يعيش العلم بين أكنافهم، ويموت الجهل عند أقدامهم، وهم الحلماء أقصى درجات الحلم، فمن مدى حلمهم نستوحي مقدار علمهم، فهم القمة في كل فضيلة، فظاهرهم يخبر عن شرف الباطن، كما يخبر الصمت عن مكنون الحكمة المنطوية في منطقهم، وهم يدورون من الحق حيثما دار، لا يخالفونه ولا يختلفون فيه.
يقول (عليه السلام):- (هُمْ عَيشُ العِلمِ وموتُ الجَهلِ، يُخْبِرُكم حِلمهُم عن عَلمِهِم، وَظَاهرُهُم عَنْ باطِنِهِم، وَصَمْتِهِم عن حِكَمِ مَنطِقِهِم، لا يُخالِفونَ الحقَّ ولا يَختَلفونَ فيه).
ثم انهم (عليهم السلام) يمسكون بأيديهم المقدسة أزمة الحق، وهم الأعلام الواضحة التي تنير ظلمة الطريق، فيها يهتدي الضالون المتحيرون، أفليس من حقهم ـ إذن ـ أن تنزلهم الأمة بأشرف المنازل وأفضلها، تلك المنازل التي أرادها الله لهم في قرائنه المجيد، وأن تردهم أنقى الموارد وأصفاها، ليرتووا منها كما ترتوي الإبل الظمأى.
يقول (عليه السلام): (وبينَكُم عِترَةُ نَبِيّكُم وهم أزّمةُ الحقِّ وأعلامُ الدينِ وألِسنَةُ الصّدقِ، فأنزلوهم بأحسَنِ منازل القرانِ ورِدوهُم وُرودَ الهيمِ العِطاش).
5. أهل البيت دعائم الإسلام وعماده:
إذا كان بيت الإسلام لا يقوم إلا بدعائم قوية تسنده وأعمدة تقيم أوده، فليس غير أهل البيت يصلح أن يكون الدعامة والعماد، فهم أقوياء في دين الله، مخلصون في طاعته، عالمون بما يصلح أمر الأمة، يضعون الأمور في مواضعها، يعطون كل ذي حق حقه، لا يتجاوزون مواضع الحق، فكل شيء عندهم موضوع في نصابه، فبهم تنقشع غمائم الباطل، وتتزعزع أركانه، وتنقلع السنته من جذورها، وإذا كان غيرهم يأخذ أمور دينه عن طريق الاخبار والروايات، فهم ينطبع الدين في نفوسهم، ويتغلغل في عقولهم، ومثل هؤلاء الذين يعقلون أمر دينهم، ويرعونه بأنفسهم قليلون، أما أولئك الذين يأخذونه عن طريق الأخبار والروايات فهم كثيرون.
يقول (عليه السلام):- (هُمْ دَعائِم الدِّينِ وولائِجُ الاعتِصامِ، بِهم عادَ الحقُّ في نِصابِهِ، وأنزاحَ الباطِلُ عن مَقامِهِ، وانقَطَعَ لسانُهُ عن منْبَتِهِ، عَقَلوا الدّينَ عقلَ وعايةٍ ورِعايةٍ، لا عَقْلَ سَماعٍ وروايةٍ، فإنَ رواةَ العلمِ كثيرٌ، ورعاتُه قليلٌ).
ثم أن اهل البيت لا تخلو الأرض منهم ابداً: حاضر منظور أو غائبٌ مرتقب، وهل تخلو الأرض من نجوم السماء؟
يقول (عليه السلام):- (أَلا إنَّ مثلَ آلِ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كَمَثَلِ نجومِ السماءِ؛ إذا خوى نجمٌ طلعَ نجمٌ)
6. أهل البيت وادعاء الآخرين الرسوخ في العلم:
يتساءل الإمام (عليه السلام) عن اولئك الذين يزعمون أنهم الراسخون في العلم دون أهل البيت (عليهم السلام)، ويصفهم بأنهم كاذبون، يبغون ظلماً وبهتاناً على آل الرسول، أنهم يحسدون أهل البيت على ما أعطاهم الله من فضل وعلم ومكانة سامية، فالله تعالى هو الذي رفع منزلة أهل البيت (عليهم السلام) ووضع الآخرين، وهو الذي أعطاهم كل فضيلة، حرم منها الآخرين، وهو الذي أدخل أهل البيت تحت كساء رحمته الواسعة، وأخرج منها غيرهم، والله سبحانه وتعالى يعطي الناس الهدى من خلالهم، ويزيل عمى القلوب والبصائر والأبصار بسببهم، وأن الله غرس الإمامة في بيتهم وجعلها في بني هاشم، دون غيرهم من قريش، لأنها لا تصلح إلا لهم، وأن الولاية فيهم حصراً لا تتعداهم، هكذا شاءت إرادة الله؛ لأنهم هم القوامون على دينه، والإمتداد الطبيعي لرسالة جدهم الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قرنهم بكتاب الله المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهم مثله منزهون عن كل باطل.
قال (عليه السلام): (أينَ الذّينَ زَعَموا أنّهم الراسِخونَ في العلمِ دونَنَا كَذِباً وبَغْياً، أنْ رَفَعَنا اللهُ ووضَعَهم، وأَعطانا وَحَرَمَهم، وأَدْخَلَنا وأخرَجَهم، بِنا يُستًعطى الهُدى، ويُسْتَجلى العَمى، إن الأَئِمّةَ من قُريشٍ غَرَسوا في هذا البطنِ من هاشمٍ، لا تَصلُح على سواهُم، ولا تَصلُح الولاة من غيرهم).
7. أهل البيت وفتن بني أمية:
ويستطلع الإمام(عليه السلام) بعين بصيرته الثاقبة مستقبل هذه الأمة، وقد بدت عليها طلائع الانحراف، فيرى بني أمية ينزون على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزو القردة والخنازير، يسوقون الأمة بحد السيف إلى جاهلية رعناء، ما لها من الإسلام إلا أسمه، أشبه ما تكون بجاهلية أحفادهم اليوم من داعش ومن لف لفهم، يتخذون عباد الله خولاً، ومال المسلمين مغنماً فأين سيقف أهل البيت في هذه الفتنة العمياء، التي تحرق الأخضر واليابس؟
يحدد (عليه السلام) هذا الموقف تحديداً دقيقاً، فالفتنة وإن كانت ستطال الجميع، لكنها بالنسبة إليهم ستنال من دنياهم ومنهم ومن شيعتهم الشيء الكثير، قتلاً وتعذيباً وحرماناً من الحقوق، وسباً على منابر الفتنة، لكنها لن تستطيع أن تنال من معدنهم الصلب وعقيدتهم الراسخة وإيمانهم بإسلامهم الحنيف، كما لا تستطيع أن تزحزحهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها قيد أنملة، فهم في كل ذلك ثابتون، مهما اشتدت رياح الفتنة من حولهم، صابرون حتى يفرجها الله عنهم تفريج الجلد لما تحته، بمن يسوق بني أمية سوق الأنعام ويسقيهم بكأس من الصبر والعلقم، وأهل البيت (عليهم السلام) في كل فصول هذه الفتنة في منجاة منها في عقيدتهم ومبادئهم وإسلامهم.
يقول (عليه السلام): (تَرِدُ عليكُم فِتنَتُهُم [يعني بني أمية] شَوهاءَ محشيةً، وقطعَاً جاهليةً، ليسَ فيها منارُ هدىً، ولا عَلَمٌ يُرى، نحنُ أهل البيتِ منها بنجاةٍ، وَلَسْنا فيها بدعاةٍ، ثم يُفرِّجُها الله عليكم كَتَفريجِ الأديمِ، بِمن يَسومُهم خَسفاً، ويسوقهم عُنْقاً، ويسقيهم بكأسٍ مُصَبَّرةٍ).
|