• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : أسراب البياض .
                          • الكاتب : فوزية جمعة المرعي .

أسراب البياض

البرد يزأر بأرجاء الكون …

القبّـة السماوية مصقولة باللآلئ …

أنامل الريح أفاعٍ  تطـوّق جسدي… تخترق مساماتي …

تحيلُ كريّـات الدم البيضاء والحمراء إلـى بَرَدٍ .. فمي يطبق على لغة الكلام.

بدأت أتحـرّك باتجـاه المدفأة.. كالرجل الآلي..

يدي اليمنى تأمر اليسرى أن ترمي بعود الثقاب في المدفأة … ترفض اليسرى، وقد تدلّـت في جيبي كقطعةٍ بلّورية من سقفٍ جليدي …

مفاجأة ..؟؟ !! .. …

تكتشف يدي اليمنى التي تولّـت فتح صنبور الوقود نفاده …

تنهيدة طويلـــة …  رددت فيها :

ـ آه لو كنت معي نختال ُدفئاً …

إن لم تنتبك المروءة في تأمين الوقود …

لتحوّلت ألسنة اشتعال حروف الشجار موقداً يستحم على نثيث جمره برد جسدينا بدأت أرقص على إيقاع ارتعا شاتي … قطعتُ مسافةً لا بأس بها كي أصل إلى غرفة نومي … تأمّـلت حركة قدميّ المربوطتين بحبال البرد، كأنّـني زنجية في معتقلٍ أبيض …

فوجئتُ بالمدفأة الكهربائية تومئ ُلي أنْ أضغط على مفتاح إيقادها …

فرحتُ هزئت ُمن البترول بكلّ مشتقاته … اقتربت منها …

أناغي الدفء فيها … سَرَت الدماءُ في رأسي … اصطففت أجنحة طيور الرؤى المعششة في أوكار ذاكرتي لتحلّـق في أيكة الدفء …

صعقت ُ… !! بالأسلاك الكهربائية المقطوعة عن تـيّارها  …

تذكّـرت أنّي أقيم في بلدٍ ، حين يداهمه البرد ، تتجمّـد الأسلاك الكهربائية فيه وتحتفظ بطاقاتها في محوّلاتٍ مرسوم عليها جماجم بشرية..!!

لم يبق أمامي سوى الفراش … اقتربت منه … كشفت اللحاف كي أندسّ فيه وألوذ به أحسستُ أنّـي فوق تلّـةٍ جليديةٍ في أحد أصقاع القطب المتجمّد الشمالي … انزلقت في الفراش … تدثّـرت … بقيتْ عيناي تومضان …

ضحكتْ نفسي علـيّ وهي تتأمّـلني كصغير الكنغر في جيب أمّـه …

تكوّرت كالقنفذ … تنهّـدت ُتنهيدةً ثانيةً أعمق ، وأطول من الأولى:

آه لو كنت َمعي … لهرب البرد خلف زئير الجدران …

تشابكتْ أناملُ الظلمة … مع أنامل البرد … مع أنامل الوحدة …

وأصغيتُ لوقع أقدام رقصة زوربا فوق أضلاع صدري … أضأتُ الشمعة … نهضت بإصرارٍ أحـدّث نفسي وهي تؤيّـدني … مواجهة الأحداث  خير من التحسّب منها … لبست معطفاً … لففت رأسي بشالٍ صوفيٍّ … تقودني أهداب ُالشمعة إلى بوابة البيت … شهقت …‍‍‍‍‍‍‍

ياله من مشهدٍ رائعٍ ... الثلج يتهافت من السماء ندفاً يزمّـل الكون .. بدأ الماس يتكسّـر على وقع خطاي … الشموع المتقدة , خلف زجاج النوافذ  فراشات بيضاء ترفرف على أغصان الظلمة .

المدينة جميعها تحتفل  بميلاد الثلج …

المدى أبيض…

 الأرض عروس يتوجها اللؤلؤ … تغـفـو في أحضان ليلٍ أبيض … وأنا أتبختـر كالوعل على مرجٍ أبيض.

دخلت ُإلى المطعم … رائحة الدفء المتبلة ببهارات السهر … بإضاءات بنفسجية  فوق بنفسجية … حمراء … تحت الحمراء … وفوقها … موسيقى نينوى نواح يتسلل صداه من ثغور الأمس لينتشي الحاضر ويثمل الوجد بنغماتها ,جلست ُعلى كرسيٍّ … أحـدّق بالبشر … من كلّ زوجين اثنين … تفصل بينهما ابتسامة … أو حملقة أو قهقهة … أو هالة ترسمها لفافات التبغ … تتلاشى بين رأسيهما …, ابتلعت تنهيدةً ثالثة … بدت أعمق وأطول من التنهيدتين السابقتين .. دمدمت في أعماقي :

تبـّـاً لك .. كم يفتقدك هذا الكرسي الجاثم أمامي كمئذنةٍ أثريةٍ ، تقطّـعت أوتار التراتيل عن حنجرتها ، فعشش البوم على أنين قرميدها …

جاءني النادل … ماذا تطلبين ..؟

أريد وقوداً لأحشائي …  أتعنين نبيذاً أحمر..؟؟

بل أبيض … تضامناً مع المدى …

حـدّثتني نفسي المتربّـعة على عرش وحدتي …

تضامنت ُمعها بلا تردد … سأقرعُ كأسي بكأس المدى …

طـوّقتْ أناملي الكأس … ارتـجّ الشراب فيها …

بدأت أميد على نغم تموسقه اللحظة … ليل أبيض … ثلج أبيض … كأس أبيض … وأنا أتحلزن في حزن … أيضاً أبيض …

بدأت تتلاطم الأمواج في كأسي حتّـى طفحت بالمدى , وإذ برجلٍ يمتطي صهوة حلم ٍ، طـّوقَ أعناق الموج بقبضته وترجّـل َعلى حافة الكأس, يحـدّقُ بي ..فأطرقُ لحظـةً … وأتأمّـله بأخرى … ما زال يرمقني … عيناه نافورتا   

حنان ,وفمه ناقوس تدلّـى عن نبض قلبي ..!

يا إلـهي … هل بدأت أحلم ..؟؟‍‍ ‍‍

لا … إنّـي جالسة … وحولي البشر …

إذاً أنا يقظة … دنا الكأس من فمي... ارتشفت قليلاً … أعدته ُ… غاص الرجل في القعر تلتهمه الأمواج …

رائع ٌهذا الصمت الذي لجم صراخي ... شربت ُالكأس كاملةً …  طلبتُ كأساً أخرى … بدأ يتّسع مداها ، وترتفع حوافّـها مشكّـلة جدراناً دائريةً وإذ بالرجل ذاته ، يتسـمّـر أمامي … تحـدّث بصوتٍ مرتفعٍ  أجفلني :

ـ أنا بانتظارك ِعند ناصية الثلج …

ـ لكنّ الطقس يتحنّـط بالبرودة …

ـ وجدتني أشربُ كأسي دفعة واحدة وأهـمّ للحاق به …

على قدمي الحذر تسللت ُ… ها أنذا أرقص على مدار البحث ، كدوران الأرض حول الشمس …

قشّـرتُ لحاء الأشجار … أناملي أضحت مبضعاً …

ياقوت دمي عقد ينفرط على الثلج …

هل أخشع ..؟؟‍‍‍‍‍‍ هل أرجـع ..‍‍؟؟

صفعت ُوجوه الريح … تزلّـجت ُعلى دروب يعبّـدها الصقيع …

قطفت ُباقةً من زهور الثلج … ربطتها بسلكٍ من دماء أناملي …

سأقدّمها له .. وأكتب عليها بطاقة إهداءٍ …

إلــى آدم … من حوّاء…

ليكن الطوفان …

قلبي سفينة نوحٍ … وأنا الشراع … والزورق …

البرد دبّ قطبيّ يزأر بـي … أأرتمي بين فكّيــه.. ؟؟ أم أقطف من جمر الصقيع بضعاً لموقد اصطباري ..؟؟..

على صليب الوعد تسـمّـرت ُ… مساميرُ الصقيع تثبّـتني … تثقب أوردتي … انسللت ُمن كفني الثلجيّ تسحبني الروح إلى المطعم …

ـ طلبتُ كأساً ثالثةً …

ألفيته يلفّ قدميه ، يجلس على حافة الكأس ، يرمقني … أرمقــه ُ…

أعتابٌ كان … ؟؟ أم مأزق .. ؟؟

‍‍‍‍‍‍‍‍قال :مشّـطتُ دروب البرد بالهذيان …

تهودج قلبي على راحلة الوهم ، وبتّ كحملٍ باغته الطوفان …

قوافل الانتظار تعبرني … وأنا حادٍ ضيّـعني الدرب … خذلني الصبر …

مضغتُ الملح … عللت ُالروح بتبر يلثم شطآني …

وأنا ربّـان  ..

ـ ما ارتجّ شـــراعي عن مـدّ اليمّ …

وما طفــحـتْ كــؤوس الكــون …

 إلاّ مــن نشـــوة وجــــداني …

قلّـمتُ أظـــافر ريــــــح الغدر ،

حين امتدّت من لافتةٍ طرّزت عليها عنواني…

ـ يعاتبني…

ـ أعاتبه ُ…

ـ يصفحُ لي …

ـ أصفح ُله …

يقترب منّـي … تتلاشى المسافات … يذوب صقيع الدروب .

إنّـه يداهمني …

يا إلـــهي … أمام البشر ؟؟  .. همّـت الصرخة بالصهيل …

أغمضت عينيّ ، تدلّـى رأسي على كأسي …

سال الشراب ساقيةً ، أغرقت مائدتي الخرافية .

رفعت ُرأسي ، تسمّـرَ النادلُ أمامي :

ـ سأملأ الكأس ثانيةً ؟؟

ـ لا هذا يكفي … إنّـها الكأس العاشرة …

ـ بل إنّها كأس واحدة .

ـ ماذا تقول ..؟؟ .. لقد ارتشفتها كأساً ِتلوَ كأسٍ  .

ـ صدّقيني ، إنّها كأس واحدة فقط … وقد دفع ثمنها رجل يقبع في زاوية المطعم ...!  شدّتني حبال الدهشة إلى الزاوية …

ـ يا إلــهي … إنّـه رجل الكأس …

خرجتُ من المطعم … تسحبني حبال الذهول للعودة إلى البيت …

تحوّلت إلى طائر ثلجيٍّ يصطفق جناحاي بالهذيان :

ليلٌ أبيض … ثلجٌ أبيض … كأس ٌأبيض … ‍

بدأت ْالأشجار تموء‍ُ تردد خلفي  ...

 أسرابُ البطريق يطوّقني تغريدها..

الدببة تنهض على أقدامها تصفّـق بأيديها

ليلٌ أبيض‍…  ثلج ٌأبيض … كأسٌ أبيض … …

بدأ الثلج يتهاشلُ بإيقاعٍ سريعٍ كأسراب حمام أبيض ، أجفلتهُ طلقة صيّـادٍ …  الكون يميد على نغمٍ يتدهدى عن شفاه ذاكرتي :

ليلٌ أبيض .. ثلج أبيض ٌ.. كأسٌ أبيض .. حلمٌ أبيض .




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=1793
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2010 / 12 / 13
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 04 / 30