• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : *الإمام الكاظم "عليه السلام" لمحة في إشكالية التوصيف والاجتزاء* .
                          • الكاتب : د . احمد الجراح .

*الإمام الكاظم "عليه السلام" لمحة في إشكالية التوصيف والاجتزاء*

تتسم سيرة الإمام عليه السلام بالمكانة السامية في التاريخ الإسلامي، ولاشك ان شخصية الإمام ومناقبه وأثاره العلمية لها الأثر البارز مع ان الظروف المحيطة بحياته عليه السلام أضفت على ذلك بُعداً لافتاً في مسيرته سيما وان الإمام عليه السلام عاصر فترة نهوض الدولة العباسية ورافق أبرز خلفاءها بداية من المنصور وانتهاءً بهارون العباسي في عاصمة الدولة بغداد، مما أٌقرنت أحداث كثيرة باسم الإمام عليه السلام، فكان محطً أنظارِ العلماء فضلاً عن عامة المسلمين والمجتمع الممتد بين المدينة المنورة والعراق.

  • أجرينا لمحة في هذه السيرة للوقوف على بعض مؤديات الاستفادة منها بدءاً من الوصفية لشخصية الإمام عليه السلام من خلال الألقاب المتعاقبة التي أطلقت عليه كتوصيف للعلم أو الكرم أو الشجاعة أو العبادة أو المناقب أو ما تعرض له من قبل السلطة من اضطهاد وسجن، وما الحق بها من اجتهاد لا أصل له، واستخدم بعيداً عما يتناسب مع مقام الإمام والمفاهيم الدينية الصحيحة، الأمر الثاني هو اجتزاء النصوص واستخدام الحدث بصورة مقاربة من دون النظر الى حيثياته واستكمال الصورة الواقعية من خلال الاطلاع الكامل على المجرى الزمني وكيفية تعاطي الإمام مع الواقع في حينها، لذلك بقي الاجتزاء مخلاً ولا يمكن الارتكاز عليه في بناء رأي أو اللجوء اليه على أٍساس عقدية مرجعية الإمام والاقتداء به.

تعد مسألة المفاهيم والتوصيف واحدة من المسائل التي تحتاج الى استجلاء لما له من دلالة ذات تأثير في البنية الاجتماعية خصوصاً إذا ارتبطت بكيان ديني، فهنا ينبغي النظر على عدم التوافقية كونها ليست مسألة أذواق ورأي، وإنما تبقى محل نزاع لما له من علاقة في الشأن الخاص بالمنظومة الدينية، وبالتالي تقع الإشكالية في مسالة حتميات نشوء هذا الكيان أو ذاك وبناء دعامته تحت الاستخدامات الفعلية للأوصاف دون المبالغة والاستخدام غير المناسب.

وبما يرتبط بالأوصاف المستخدمة في حق الإمام عليه السلام لوجدنا ان هناك كم من التوصيفات الواردة عن علماء عصره، والتي لم تقتصر على علمه كما ترد في سياق البحث عن سير العلماء والرموز وان كان مقدماً في كلماتهم كما ورد التوصيف بالإمام الكبير، الأوحد، الحجة، الحبر، من أكابر العلماء الأسخياء، وأحد كبار العلماء الاجواد، (الأعلام 8/270) يمكن ملاحظة أوصاف أخرى مثلاً اشتهر بين أهل العراق بباب قضاء الحوائج لكراماته ونجاح مطالب المتوسلين به الى الله تعالى، وسمي بالعبد الصالح نسبة إلى كثرة عبادته، والكاظم نسبة الى حلمه والكظم عن المعتدين وهو من التسميات المشهورة، والسيد، والصابر، والأمين، والزاهر، والنفس الزكية، وغيرها.( تهذيب التهذيب 10/340)

فلو أجرينا مسحاً في هذه التوصيفات للاحظنا فيها عدة أمور أولاً اشتراك الاستخدام لبعضها مع رموز آخرين في حين يتصف الأخر بالخصوصية او الشهرة له كتوصيفه بالكاظم وباب الحوائج، وثانياً التوافقية مع البيئة الدينية الخاصة، إذ يلحظ فيها الاستخدام الصحيح بعيداً عن الذوقيات التي تفسح المجال للتوصيف الدخيل على البيئة الدينية والإسلامية تحديداً، فالمتأمل في النصوص الدينية يجد الأصل لبعض هذه الاستخدامات، اما الأخر جاء بناءً على المناقب والصفات المشهورة للإمام عليه السلام، وهنا ينبغي التدقيق في ما يخرج عن السياق المتقدم، وهنا يمكن ملاحظة تسميات دخيلة لا صلة لها وان كانت مرتبطة أحيانا بجنبة معينة من الشخصية لكنها لا تتوافق مع البيئة الخاصة، وهنا دعوة لملاحظة بعض التوصيفات الشائعة في عصرنا وتستخدم في اللافتات او تطلق في المجالس بشكل غير مدروس ولا يقتصر هذا الامر على الرموز او الائمة صلوات الله عليهم بل بساحة المصطلحات والمفاهيم الدينية بشكل عام، وفي سياق البحث وعن الامام الكاظم عليه السلام يمكن الوقوف وعلى سبيل المثال على لقب راهب، وأسد بغداد، وكقراءة سريعة لها نجد أنها مقابلة لتوصيفات أشهر له كالعابد والسيد، ولو تم تحليل مفردة الراهب وتفسيراتها نجد أنها وردت في القران الكريم بعد مفردة الاحبار في موردين من سورة التوبة (31) (اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا الا ليعبدوا الها واحداً..)، واية (34) (ياأيها الذين أمنوا ان كثيراً من الاحبار والرهبان ليأكلون اموال الناس بالباطل..) من سياق الاية وكتب تفسير يمكن ملاحظة أمرين: الاول ان المصطلح له استخدام خاص فقد ورد في تفسير مفردة الاحبار هم علماء اليهود، والرهبان هم عبَّاد النصارى (تفسير ابن كثير2/34)، والثاني ان الرهبانية أمر غير محبب والمقصود بها الغلو في تحمل التعبد، اذ لم تك المفردة محببة في سياق الاية الاولى، وان التشريع لم يأمر بها كما أمر بالعبادة في نفس الاية (وما امروا الا ليعبدوا الها واحدا..) فاستخدم مفردة العبادة كبديل للرهبانية تنزيها له سبحانه وتعالى من خلال العبادة الصحيحة، وملاحظة المفردة أيضاً في سورة الحديد اية (27) (ورهبانية ابتدعوها ماكتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فأتينا الذين امنوا منهم اجرهم وكثيرٌ منهم فاسقون) فدلالة الرهبانية هنا غير محببة أيضاً، والاشد هنا المقاربة بين الرهبانية والابتداع في الدين الخارج بالملتزمين به عن رضا الله، لذلك فان المصطلح خارج عن السياقات الدينية، وإطلاقه كوصف يبعد المتلبس به عن حقيقة العبادة وتحقيق الرضا لله وان كان الواصف احياناً يريد به قصد المبالغة في الاداء الا انه استخدام غير متوافق وبالتالي يقع تحت نطاق التعارض مع مقام الامامة.

ولو تأملنا في الاستخدام التاريخي للمفردة فيمكن التوقف على ما ورد في سيرة الامام عليه السلام، فقد نقل الثوباني: كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر بضع عشرة سنة كل يوم سجدة انقضاضَ الشمس إلى وقت الزوال، فكان هارون ربما صعد سطحاً يشرف منه على الحبس الذي حبس أبو الحسن، فكان يرى أبا الحسن ساجداً فقال للربيع: يا ربيع ما ذاك الثوب الذي أراه كل يوم في ذلك الموضع؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما ذاك بثوب، وإنما هو موسى بن جعفر، له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال! قال الربيع: فقال لي هارون: أما إن هذا من رهبان بني هاشم! قلت: فمالك قد ضيقت عليه الحبس؟ قال: هيهات لا بد من ذلك. ( المناقب لابن شهرآشوب4/318) وان نقل هذا النص بألفاظ مختلفة لكن مفردة رهبان ثابتة كتوصيف أطلق على الإمام، فان الاستخدام التوفيقي لهذا المصطلح جاء على لسان الخليفة هارون ولم يشتهر في حينها وبعدها أيضاً لتنافيه مع الجو الخاص أو البيئة الدينية الإسلامية كما مر، لاسيما شيوع الأوصاف الأخرى وتعارف الناس عليها، فضلاً عن حساسية الأتباع في تقليد الخليفة الذي كان وراء ظلم الإمام والتسبب في مقتله، وهذا المثال المتقدم للاستخدام التوفيقي كأنموذج للاستخدامات البعيدة المقام عن شأن الإمام ورمزيته الدينية، وبذلك ينبغي للأتباع التقييد في الجو الخاص في انتقاء التوصيفات، ومثلها المصطلحات الدينية الا من مصادرها المتبعة، والابتعاد عن الفوضى في الاطلاقات ليضمن سلامة الاداء خصوصاً لمراكز النشر والشخصيات ذات التأثير التوعوي كالشعراء والكتاب وغيرهم.

أما إلاشكالية الثانية فهي الاجتزاء إذ تعد هذه المسألة خطيئة عملية الفهم، اذ يعمل الاجتزاء عمله في تحويل الفهم الصحيح، سيما في استقطاع السياقات والزمنية منها، مما يُدخل المتعلمين او الإتباع في أزمة التداخل المعرفي بين القبول والرفض، فنرى الاجتزاء لمقولات على أنها الأساس التربوي المتساير مع نهج الإمام والملزم للأتباع، التي يتصدرها الأفراد وكأنها الغاية التربوية ومما ينبغي ان نكون عليه.

ولو أخذنا سياق المنهج العبادي للإمام عليه السلام كأنموذج للاجتزاء كما ورد في دعاءه المنقول عن بعض عيون الخليفة هارون انه قال: كنت أسمعه كثيراً يقول في دعائه: اللهم إني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك ، اللهم وقد فعلت فلك الحمد. (الإرشاد2/240).

فإن هذا الدعاء يعكس حال الإمام الذي رضي بقضاء الله تعالى فيما لو توقفنا على انه الدعاء الوحيد الصادر من الإمام أثناء فترة سجنه، الا ان واقع الحال يثبت ان الامام عليه السلام لم يكتف بهذا الدعاء فقط، بل كان يدعو الله تعالى بما يفرج اليه عنه، ويخلصه من الحال الذي كان فيه، وبأكثر من صيغة تبين الحاجة الماسة للخروج مما يعانيه من الألم والظلم الذي وقع عليه في السجن، لئلا يتوهم الإتباع ان رغبة الإمام كانت بالبقاء معتكفاً في السجن والتفرغ للعبادة فقط بعيداً عن ممارساته اليومية ومسؤوليات الامامة، ومن الأدعية الأخرى الواردة له في السجن التي يعبر فيها عن شدة طلبه للخروج والإلحاح بالدعاء للفرج والخلاص مما حل فيه، فقد ورد عن عبد الله بن مالك الخزاعي الذي كان على دار الخليفة هارون وشرطته انه دخل على الامام بعد ان امره الخليفة باطلاق سراح الامام موسى بن جعفر عليه السلام قال قلت له: لقد رأيت من أمرك عجباً. فقال عليه السلام: فإنيّ أُخبرك، بينما أنا نائم إذ أتاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا موسى ، حُبست مظلوماً ، فقل هذه الكلمات ، فإنّك لا تبيت هذه الليلة في الحبس، فقلت: بأبي وأُمّي ما أقول؟ قال: قل: " يا سامِعَ كُلِّ صَوْت، وَيا سابِقَ الفَوْتِ، وَيا كاسي العِظامِ لَحْماً، وَمُنْشِرَها بَعْدَ المَوْتِ، أسْألُكَ بِأسْمائِكَ الحُسْنى، وَباسْمِكَ الأعْظَمِ الأكْبَرِ الَمخْزونِ المَكْنونِ الَّذي لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أحَدٌ مِنَ المَخْلوقينَ، يا حَليماً ذا أناة لا يُقْوى عَلى أناتِهِ، يا ذا المَعْروفِ الَّذي لا يَنْقَطِعُ أبَداً وَلا يُحْصى عَدَداً، فَرِّجْ عَنِّي "، فكان ما ترى. (مروج الذهب3/356).

وورد أيضا دعاء أخر له كما جاء عن ماجيلويه ، عن علي، عن أبيه، قال: سمعت رجلاً من أصحابنا يقول: لمّا حبسَ الرشيدُ موسى بن جعفر ( عليه السلام) جنّ عليه الليل، فخاف ناحية هارون أن يقتله، فجدّد موسى ( عليه السلام ) طهوره واستقبل بوجهه القبلة وصلّى لله عزّ وجلّ أربع ركعات ، ثمّ دعا بهذه الدعوات، فقال: " يا سَيِّدي، نَجِّني مِنْ حَبْسِ هارونَ، وَخَلِّصْني مِنْ يَدِهِ، يا مُخَلِّصَ الشَّجَرِ مِنْ بَيْنِ رَمْل وَطين، وَيا مُخَلِّصَ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ فَرْث وَدَم، وَيا مُخَلِّصَ الوَلَدِ مِنْ بَيْنِ مَشيمَة وَرَحِم، وَيا مُخَلِّصَ النَّارِ مِنْ بَيْنِ الحَديدِ وَالحَجَرِ، وَيا مُخَلِّصَ الرُّوحِ مِنْ بَيْنِ الأحْشاءِ وَالأمْعاءِ، خَلِّصْني مِنْ يَدَيْ هارُونَ". (عيون أخبار الرضا 1/93) يتبين من خلال تنوع دعاء الامام عليه السلام في فترة السجن انه لم يك عاكفاً راضياً، ولم يتخذه منهجاً وطريقاً للعبادة بالمقدار الذي هو مجبرٌ على البقاء فيقضي الوقت بالعبادة والمناجاة بين يدي ربه، ولذلك ينبغي على الاتباع النظر في الصورة الكلية للحدث وسيرة الامام للاقتداء بالصحيح الذي تأسس من خلال اتباع المنهج الصحيح في الاخذ من اهل البيت عليهم السلام والاقتداء بسيرتهم وفق الاصول المتبعة، ومن هذه الاشكاليات يمكن التفكر في كثير من محطات التشريع ورموزه للوقوف على معارفهم والاخذ منها بالشكل السليم.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=178336
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2023 / 02 / 15
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15