من بعيد، يبدو على محيّاها تألق الرضا، يرتسم على ثغرها، على عيونها، تبدو نظرة اليقين زاهية بكل ألوان الجمال التي تعرفها، انعكاس للوحة الروح في عروجها السرمدي، تحت سطوة ملك الموت أسلمت نفسها بكل خضوع، فهو لقاء مع المعبود.
وقبل تسليم الروح، حلقت إلى مراتع الذكريات، وكأنها تودع تلك اللحظات التي صارت من الماضي، هنا في أرجاء بيتها كانت تهتم به، تتابع حركاته، سكناته، هيئته، كانت توليه قلبها، وعقلها قبل اهتمامها.
رنّت في أسماعها ضحكات الشباب، ذاقت حلاوة هذه الذكريات، فتبسمت، ثم أخذتها رقة الاستعبار، فهي ستفارقه وتفارق حبيبه وحبيبها، سيبدو البيت الذي تتضوع منه شذا النبوة والإمامة خالياً منها، يا للرزء العظيم!! كيف ستحتمل الجدران أن لا تسمع هينمات دعائها؟ والفناء الذي طالما ضمّ صلواتها، وشهد على رفع كفيها بالدعاء!! وأيّ دعاء تحمله أنفاسها، ويطلقه لسانها.
إنّها تناجي باسم أحبّ الخلق إلى الله حبيبّه، وصفيّه ونجيّه، كيف ستفارق الكعبة التي لم تحتضن سواها؟ كانت لها كالأمّ الرؤوم في نفاسها، بل كيف ستفارقها الكعبة التي اعتادت أن تستمع الى مناجاتها ودعواتها للمعبود؟
:ـ «توصيني في وَلدي محمّد، وإنّه أحبُّ إليّ من نفسي وأولادي؟!» كلمات أطلقتها من عمق روحها بلوعة الدهشة، حينما أوصاها أبو طالب بالحبيب المصطفى، بعد وفاة عبد المطلب، وكفالته له من بعده، فكانت له أمّاً أكثر من أمّ، عاشت له وبه، وكيّفت حياتها على راحته ورعايته.
لكلمة أمي جمال يأخذ بالألباب، ويختزل سنوات ضوئية من معاني الحب، فكيف أن كان من ينطقها هو حبيب الحبيب!! يا لهذه الحبوة العالية المشارف، التي تنتمي إلى كرامات من كرامات آل أبي طالب وفضلهم.
فاضت بروحها الأملاك إلى بارئها، وانطفأت شمعة بيت آل ابي طالب، اكتسى الحزن جدران بيتها وبيوتات المدينة، وأمير المؤمنين (عليه السلام) يحمل خبر فقدان أمه إلى الحبيب: «ماتت أمي فاطم»، فقال رسول الله: «وامي والله».
وقام مسرعاً، حتى دخل فنظر إليها وبكى، الله أعلم كيف كان حزن النبي (ص) على أمه فاطمة، وهو منبع الرحمة والإنسانية. لقد قام بعمل مراسيم دفن خاصة لها لم يفعله مع أحد من قبل، كفّنها بقيمصه الشريف، وحمل جنازتها على عاتقه المقدس، واضطجع في قبرها، وأنزلها بيديه الكريمتين، ولقّنها حجتها بنفسه، وناجاها طويلاً إلى أن سأله من كان حاضراً: إنّا رأيناك فعلت أشياء لم تفعلها قبل اليوم؟ فقال: «اليوم فقدت برّ أبي طالب، إن كانت ليكون عندها الشيء فتؤثرني به على نفسها وولدها».
لم يكتب التأريخ أنّ أمّاً فضلّت على أولادها غيرهم سوى السيدة فاطمة بنت أسد والسيدة أم البنين (رضوان الله عليهما) الذي ضمّ أشرف الخلق، وكأن الله (عز وجل) كتب لهذا البيت الذي أذن أن يُرفع فيه اسمه بالغدو والآصال أن تكون جدرانه من جدران الجنان والقداسة، تشهد على قدسية نشوء الفضائل والارتقاء إلى عوالم يكتنفها النقاء تحلق بهم إلى المديات التي تتعلق بهذه العوالم.
ما أبركه من بيت إذ حوى خير الخلق وسيد المرسلين ووجد الحنان والرعاية والحب، ومن بعده حوى أسباطه، إذ أغدقت السيدة أم البنين (عليها السلام) عليهم الحنان والرعاية والحب وآثرتهم على أولادها، اقتفت إثر أم زوجها، وحملت منهجها أساس وعي وحكمة وعلم.
|