السواتر تعج بالحركة والترقب والضباط اكثر توددا للجنود ومفردات التعامل تميل نحو المجاملة والاحترام ومن كان بالامس (قشمر او ضد الحزب والثورة او يتهرب من الساتر ) اصبح اليوم ( اخي العزيز وصديقي وابو التحرير ) وغيرها .. والخوف يغلي بداخل الجميع بعد ان انصرم النصف الاول من الليل وتعدت عقارب الساعة الثانية عشرة بدقائق قليلة ولم يحدث سوى اطلاق عدة رصاصات من مكان بعيد لم يستطع احد تحديده او معرفة سبب الرمي والظلام يفرض نفسه ككائن خرافي تختفي تحت عبائته الامور المجهولة والنقيب زكي يتمترس في اكثر نقاط الساتر حصانة وينظر الى ساعته التي سحقت عقاربها الدقائق الخمسة الاولى من اول ايار ويلتفت الى عريف جاسم ويسأل :
. جاسم لو اتفقنا ان الهجوم واقع لامحالة واننا استطعنا الحفاظ على رؤوسنا فوق اكتافنا او هكذا شاءت الاقدار كم تتوقع ان يطول الهجوم وكيف يتوقف ؟.
. سيدي ان الامور هنا في الساتر غير خاضعة لقانون الاحتمالات او التوقعات او مثل ما يقول ( نعيم الحمد ) التكهنات وانما لها قانون خاص خارج حتى عن حدود الفنطازيا وهذا القانون يكيف نفسه كل مرة حسب طبيعة الهجوم ولازلت اذكر اننا يوم دخلنا الاراضي الايرانية كنا نحن المهاجمين وكان المدافعين هم وعلى ما اذكر اننا تقدمنا داخل العمق الايراني كثيرا حتى ان احد المحللين قال ان الجيش العراق توغل بالاراضي الايرانية بمساحة تقارب مساحة العراق لكننا للحقيقة لم نجد بينهم كقطعات من صمد بوجهنا او بالاحرى لم نجدهم الا قرب الحافات التي توقفنا عندها مثل بهمشير او الخفاجية او الاحواز او ديسفول وغيرها من المناطق التي حاربوا بها بطريقة جيش مقابل جيش وفعاليات محدودة لاترقى لمستوى الهجوم والتخطيط والاهداف واستمر هذا قرابة حولين بعدها بدأت الامور تتغير هم استعادوا وعيهم بعد الصدمة ونحن اكتشفنا الملعوب وتسرب لنا الملل خصوصا بعدما عرفنا ان الشقيقة السعودية تدفع للحكومة عن كل جندي عراقي يقتل اربعين الف دينار أي ما يعادل مائة وعشرين الفا من دولارات امريكا وبالمقابل تمنح الحكومة اهل القتيل او الشهيد منحة عقاري تسترد فيما بعد وقطعة ارض ومكافأة شهادة اضافة لسيارة كرونا وكل هذا لايساوي نصف المبلغ الذي دفعته شقيقتنا السعودية مقابل موت عراقي .. المهم ياسيدي شاركت بصد عدة هجومات وكنا قد صمدنا باحدها بوجه المهاجمين لمدة نصف ساعة فانكسر هجومهم وانسحبوا وغنمنا منهم الكثير واسرنا عددا كبيرا ايضا وقتل منا ومنهم ما يكفي لاشغال مقاعد جامعة متكاملة الكليات والصفوف وفي هجوم اخر تركنا مواضعنا قبل وصولهم فغنموا كل شيء وفرضوا سيطرتهم على الارض وكانت هناك بطولات فردية وجماعية كأن يصر احد الجنود على البقاء في موضعه حتى الموت ويلحق بهم خسائر عالية ويكرم من قبل القيادة شخص او اشخاص غيره ومعلوم ان مصدر صمود كل جندي هو حب الوطن مضافا له قدرة الابواق على غسل الادمغة وتصوير الوضع على انه دفاع عن الوطن وحرماته والذود عن الشرف والكرامة فيما تعلن الحقيقة بوضوح جلي ان هذه الامور ابعد ما تكون عن سبب الحرب بين الطرفين حيث خاضها كل طرف ضمن حسابات دولية واقليمية وعالمية ومن المضحك المبكي في الوضع ان الاوراق اختلطت بشكل غريب عجيب وخذ على ذلك دليل قريب للفهم فالعراق وايران يتكلمون باعلامهم على امريكا ويسمونها عدوة الشعوب وقائدة الامبريالية والاستعمار وغيرها من النعوت المشينة لكن امريكا تزود الطرفين بكل شيء ابتداءا من الدعم اللوجستي والاستخباري الى الوساطات لوقف الحرب كذلك تفعل الصين وهي الدولة الشيوعية التي تنادي بالمباديء ولاتلتزم بها وتطالب بوقف اطلاق النار وتزود ايران والعراق باسلحة الهاونات والراجمات والاعتدة ناهيك عن بريطانيا وفرنسا والنمسا التي اتخذت موقفا موحدا من الطرفين وزودتمها بمدفع اطلق عليه ( النمساوي ) وللاتحاد السوفيتي موقفا لايقل عن الاخرين حيادية بالكلام وطمعا بخيرات الطرفين وتزويدهم بكل الات الدمار وهكذا يكتشف المرء كلما اوغل في طريق الحرب ان الطرفين المتحاربين لايملكان من امرهما شيئا وينحصر واجبهم فقط بتحريك القطعات واشتباك الجنود على السواتر وكأنها حفلة لقتل اكبر عدد من البشر في زمن قياسي لذا يصبح قانون الهجوم مرتبط بجهات بعيدة جدا عن سواتره وهي التي تقرر من ينتصر في هذا الهجوم ومن يندحر واذا اردت ان تتأكد من ذلك ما عليك الا التركيز والاستماع لاذاعات البي بي سي ومونت كارلو وصوت امريكا وستعرف من خلال بث الاخبار وتحليل المختصين وتنظيراتهم ان النصر في هذا الهجوم لهذا الطرف او لذاك وبما اني استمع ومنذ قرابة العشرين يوما وبشكل متواصل لهذه الاذاعات فانا على يقين تام ان النصر في هذا الهجوم لايولد في سواترنا .
. بعد هذه المحاضرة الطويلة والعريضة ماذا تريد ان تقول عريف جاسم .. ان لاامل بنجاتنا ؟وانا لم اخرج بموعد غرامي مع سليمه الامرة واحدة الله لاينطيك عافية هدمت كل امالي .
. سيدي فوق كل هذا تبقى ارادة الله .
. حمدا لله يوم عرفته حضرة العريف متأخرا وكنت تقدم عليه ارادة الصين وامريكا ويجوز حتى جزر القمر .
.عفوا سيدي يبدو ان ذكرى الحبيبة اثرت عليك فتصورتني ملحدا او ناكر لوجود الله وانت تعلم اني اعبد الله لدلوك الشمس وغسق الليل وقرآن الفجر ولم يلهيني عن ذكر الله لاحرب ولاتجارة وقد عانيت من جراء ذلك واتهمت بشتى التهم حتى حرموني وانت موجود من استحقاق نجمة على الاقل ونوط شجاعة ولم تستطع فعل شيء من اجلي حينها .
. عفوا جاسم كنت اتلاطف معك ولم اقصد اثارة المواجع وان شاء الله نستطيع صد هذا الهجوم والك علي اطالب بتكريمك بسبعة انواط شجاعة ونجمتين .
. هاي اذا بقينا على قيد الاحياء او ما اتهمنا بالخيانة والجبن والتخاذل .
. من الذي يتهمنا بالخيانة والجبن او التخاذل ؟
. من يجلس بعيدا عن الساتر في بغداد ويطلق الاحكام والاوامر ويقرر من كان شجاعا ومن هو خائن من دون ان يعترض عليه احد او يجبره على التراجع عن قراراته .
. هل تقصد القائد .؟
. قائدك واعذرني سيدي لم يكن اكثر من قرقوز او قرد يرقص بمناسبة او غيرها .
. جاسم يبدو انك وصلت الى اخر مراحل اليأس واقتنعت تماما بأن لامفر من الموت في هذا الهجوم .
. لم اكن جزعا ولاخائفا من الموت خصوصا وانا زاملته هذه السنوات لكن الظرف يساعد على ان يقول المرء كل مالديه بعد ان توفرت اسباب موضوعية .
. ممكن احد هذه الاسباب عريف جاسم ؟.
. بكل ممنونية .. انا وانت نشترك حتما بهذا الهجوم والاحتمال الاقرب للواقع ان نموت معا وبذا لاغالب ولامغلوب والاحتمال الثاني ان يموت احدنا فتصبح القاعدة اذكروا محاسن موتاكم والاحتمال الثالث ان يقع احدنا او كلانا بالاسر وهي مؤدية الى نفس الاحتمال الاول والاحتمال الاخير ان نجرح او يصاب احدنا بعوق يضعه خارج الساتر بشكل نهائي وبذا نكون عرف كل واحد منا ما بنفس الثاني تماما دون ان يستطيع استخدامها ضده ذات يوم لانه سيكون غير موجود حتما او خارج الساحة بحيث لايؤثر عليه شيئا .
. واذا خرجنا سالمين لاموت ولاعوق ولااسر ولاجبن ولاخيانة ؟.
. هذا حلم لايطرق اطراف الجفون .
. يبدو انك نسيت الله مرة اخرى عريف جاسم .؟
. سيدي ماذا تريد لماذا لاتفصح عن غرضك وتثق بي مثلما اثق بك ؟.
. جاسم انا اثق بك تماما لاكنك ذابها على الساطور ومات في صدرك الامل في حين احلم انا بكثير من الاشياء الجميلة التي تستحق ان اجتاز هذا الهجوم سالما من اجلها .
. اذا تكلم معي بصراحة ياسيدي وقل كل مافي صدرك انا صديقك واخوك ورفيق سلاحك ولكي تكون اكثر اطمئنانا سيدي انا عريف جاسم حسوني عبيد وانت النقيب زكي صفوك الشمران هل استعدت ذاكرتك وثقتك بي ؟.
. نعم .. نعم جاسم صحيح لكن الخوف يسيطر علي ويكاد يقتلني قبل رصاص المهاجمين ولااجد الامان الا معك في حين انت هذه الساعة بدأت ترعبني وتغلق كل ابواب الامل في وجهي .. اذا كنت اخي وصديقي حقا امنحني الامل وعيشني به حتى لو تعلم اني سأموت بعد اقل من ساعة .
. سيدي اعترف لك انك اكثر شجاعة مني اذ كانت لك القدرة على الاعتراف بخوفك ومصارحتي به لكنني اتمزق الان خوفا ورعبا وطرقت كل ابواب الامل في مخي فلم اجد منها من هو مواربا على الاقل وانما غلقت كما اغلقت زليخا ابوابها .
. اذن نحن خائفان والمنطق يقول ان قرارات الخائف تأتي مرتبكة وقد تؤدي به للتهلكة سريعا تعال نتساعد كي نوقف خوفنا عند حد معين وقبل كل شيء الم نؤمن بأن الاعمار بيد الله سبحانه .
. احسنت سيدي كانت غائبة عني ومع ذلك فلازلت خائفا مع ان الايمان بدأ ينتشر في مساحات روحي من جديد لكن علاقتي مع الله مرت بمراحل فتور ولايمكن اصلاحها بثواني وهذا مايخيفني ويجعلني اتمنى تأجيل موتي ولو لفترة قصيرة لكي اصلح هذه العلاقة الضرورية .
. جاسم مالذي يخيفك هل كنت بعثيا تكتب التقارير وتشي بالابرياء فيعذبونهم ويقتلونهم ؟.
. حمدا لله فأنا من المغضوب عليهم من قبل الحزب بالوراثة وحتى اخي حاول ان يكون بعثيا فرفضوه وقالوا له انت من عائلة عليها الكثير من المؤشرات ولايمكن قبول انتمائك للحزب فعاد للبيت وصب جام غضبه على الوالد واعمامه ومن ثم علينا نحن اخوانه لانه لايمكن قبوله بكلية الشرطة مالم يكن بعثيا ويزكى هو وعائلته من قبل الحزب بالمنطقة .
. جاسم مادمت لم تكن بعثيا اذن انت من قتلة الحسين ولذا تخاف النار ..
. سيدي القضية لاتحتمل المزاح انا ارتكبت اخطاءا لازال ضميري يؤنبني كلما مرت بذاكرتي وهي لاتريد مبارحة الذاكرة .
. مثل ماذا مو ذبحتني .؟
. سيدي في بداية الحرب كنت متهورا ومخدوعا بالفكرة القومية والتحرير والبطولات والاوسمة والانواط فشاركت بكل قوة وقتلت عدة جنود من الطرف الاخر وكنت فخورا بذلك واكثر ما يقض مضجعي واراه كل يوم ذلك الجندي الذي وجد نفسه محاصرا فاراد الاستسلام وقبل ان يرفع يديه للاعلى صوبت نحو قلبه وارديته صريعا بالحال وهو يزورني كل يوم ويؤنبني على فعلتي الشنيعة معه وكم زرت اضرحة وقدمت نذور وبكيت لكي لايكرر زياراته لي لكنه لم ينقطع .
. ربما لن يأتيك بعد اليوم ولن يعنفك لانك ندمت تماما وتبت الى الله .
. يسمع منك الله .
. امين .
. حقا نطق الشاعر ..
. ماذا قال بالله عليك سيدي .؟
. الظلم من شيم النفوس فأن
تجد ذا عفة فلعلة لايظلم
.ومع ذلك هو عدو جندي ايراني ان لم تقتله قتلك وحسن فعلت يوم قتلته وحافظت على حياتك .
.سيدي ان الجنود الايرانيين مثلنا تماما اغلبهم مغلوبون على امرهم ويساقون الى محارق الموت مثلما نساق نحن واذا كان خلفنا فرق اعدامات ورفاق وجيش شعبي لهم مثلهن ايضا ويقف خلفهم الحرس الثوري الذي لايقل سطوة عن الحرس الخاص والجيش الشعبي عندنا مجتمعان وهو ذو صلاحيات واسعة . وكما تعرف ان لكل انسان خصوصا الشباب طموحات وآمال وتطلع للمستقبل ومن غير المعقول ان يقدم نفسه الى محارق الموت برغبة منهم ولايغرك ماتسمعه من وسائل الاعلام وكلام الجنود سواءا كانوا عراقيين او ايرانيين امام التلفزيون عن القيم والمباديء والدفاع عن الوطن فهذه كلمات القموا بها كما يلقم ال... بحجر وثق لو ان الامر متروك لنا لمارأيت شخصا واحدا يقترب من الساتر او يفكر بأستخدام السلاح .
.يعني هناك بالجانب الاخر من يناظرنا يحمل امالا ويدفع نحو الموت قسرا .؟
.الامال والطموحات والمصائر كلها تتشابه ربما يكون اختلافنا بالاسماء فقط ان لم تكن تتشابه ايضا ولو بتحريف بسيط وربما هناك زكي وسليمه وجاسم وحسوني لكن ربما اضيف لها ياء ونون فاصبح زكيان بدلا من زكي وهكذا .
. لكنهم بلا حزب قائد ولارفاق ولافرق اعدامات او حزبية .؟
. من قال ذلك وماذا يفعل البسيج والاكاهي والحرس الثوري والاطلاعات .؟
. ماهذه المسميات ابن حسوني وكيف توصلت لها .
. انها ببساطة نفس تشكيلاتنا التي تطاردنا وتخيفنا حد الرعب لكن كما قلت لك يختلفون عنا بالتسميات ولذا جنودهم مساكين ومجبرون تحت وطأة الخوف والرعب مثلنا تماما وكم لاحظت خلال مشاركاتي بالحرب حرص الكثير منهم على الوقوع بالاسر .
. الى متى تبقى الشعوب مغلوبة على امرها .. تصادر اراداتها وتدفع خيرة ابنائها الى محارق الحروب .؟
. الى ان تستطيع التغلب على خوفها ومواجهة حكامها المسعورين واجبارهم على احترام ارادة الامم وقتها يكون القانون سيد الموقف لا الحاكم الاهوج .
. سيدي يبدو ان هناك حركة غير طبيعية امام سواترنا .
|