• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : من دروس كاظم الغيظ: الرفق في تبليغ الحق .
                          • الكاتب : عبد الناصر السهلاني .

من دروس كاظم الغيظ: الرفق في تبليغ الحق

في حادثةٍ - نقلها عدة من علمائنا المتقدمين كالصفار، والكليني، والمفيد، وغيرهم (رضوان الله تعالى عليهم) في كتبهم بتفاوت يسير- جرت في حياة الامام الكاظم موسى بن جعفر (عليهما السلام) فيها من الموعظة والحكمة الكثير في مجال السلوك التبليغي للدين وهداية الناس الى الحق بكل رفق ولين.

 نذكر نص الحادثة ثم نتوقف عند فقراتها للاستفادة من دروسها ونختار النص برواية الشيخ الكليني: (( عن محمد بن فلان الواقفي قال: كان لي ابن عم يقال له: الحسن بن عبد الله، كان زاهداً وكان من أعبد أهل زمانه، وكان يتقيه السلطان لجِدِّهِ في الدين واجتهاده، وربما استقبل السلطان بكلام صعب يعظه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر وكان السلطان يحتمله لصلاحه، ولم تزل هذه حالته حتى كان يوم من الأيام إذ دخل عليه أبو الحسن موسى (عليه السلام) وهو في المسجد فرآه فأومأ إليه فأتاه فقال له: يا أبا علي، ما أحب إلي ما أنت فيه وأسرني إلا أنه ليست لك معرفة، فاطلب المعرفة، قال: جعلت فداك وما المعرفة؟ قال: اذهب فتفقه واطلب الحديث، قال: عمن؟ قال: عن فقهاء أهل المدينة، ثم اعرض عليَّ الحديث، قال: فذهب فكتب ثم جاءه فقرأه عليه فأسقطه كله ثم قال له: اذهب فاعرف المعرفة، وكان الرجل معنيا بدينه فلم يزل يترصد أبا الحسن (عليه السلام) حتى خرج إلى ضيعة له، فلقيه في الطريق فقال له: جُعِلت فداك إني أحتج عليك بين يدي الله فدلني على المعرفة قال: فأخبره بأمير المؤمنين (عليه السلام) وما كان بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبره بأمر الرجلين فَقَبِل منه، ثم قال له: فمن كان بعد أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ قال: الحسن (عليه السلام) ثم الحسين (عليه السلام) حتى انتهى إلى نفسه ثم سكت، قال: فقال له: جُعِلت فداك فمن هو اليوم؟

قال: إن أخبرتك تقبل؟ قال: بلى جعلت فداك؟ قال: أنا هو، قال: فشيء أستدل به؟ قال: اذهب إلى تلك الشجرة - وأشار [بيده] إلى أم غيلان - فقل لها: يقول لك موسى بن جعفر: أقبلي، قال: فأتيتها فرأيتها والله تخد الأرض خدا حتى وقفت بين يديه، ثم أشار إليها فرجعت قال: فأقرَّ به ثم لزم الصمت والعبادة، فكان لا يراه أحد يتكلم بعد ذلك.)) (١)

 

🔷 والان لنقف عند الإفادات من ظاهر نص هذه الحادثة في سيرة كاظم الغيظ (عليه السلام):

 

🔶 ١- الملاحظ من خلال الرواية ان هذا الشخص (الحسن بن عبد الله) كان على غير مذهب اهل البيت (ع) من عامة المسلمين وكان متديناً صالحاً في أعماله وسلوكه العام آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر حتى مع الحاكم الذي كان يقبل منه ولا يؤاخذه، ويبدو انه كان معروفاً بين الناس وفي مجتمعه، والامام (ع) يعرفه ايضاً.

 

🔶 ٢- ان الامام (ع) هو الذي بدأهُ في الحديث حين رآه في المسجد فالرواية تقول: (( فأومأ إليه وأتاه )) وفي لفظ كتاب (بصائر الدرجات) للصفار: (( فأدنى إليه )) أي الامام هو الذي ذهب إليه ظاهراً، وأياً كان فان ما جرى يشير الى اهتمام الامام (ع) بهداية ذلك الشخص الى الاعتقاد الصحيح.

 

🔶 ٣- الطريقة التي سلكها الإمام (ع) في التبليغ - الذي هو وظيفة الحجج (ع) الرئيسية - كانت في غاية الحكمة، فقد كنّاه ولم يسمّه، مبالغة في إظهار الاحترام ثم أظهر له محبته، وسروره بما يمتلكه من صلاح عندما قال له: (( يا أبا علي، ما أحب إلي ما أنت فيه وأسرني )) وفي هذا درس نفيس للمؤمنين لاستفادة منه فالذي يكون عنده جانبان حسن وسيء سواء من جهة الافعال او الاعتقاد فلا ينبغي في مقام النصح والارشاد والتبليغ الى الحق الغاء الجانب الحسن والايجابي واغفاله وكأنه لم يكن، فإبرازه وذكره والاعتزاز به قبل التنبيه الى الخلل والجانب السلبي الموجود يكون طريقاً سليماً ومقدمة سديدة لتأثير النصيحة في نفس المقابل مما يجعل الارضية مهيأة لقبولها والأخذ بها، فهذه سيرة أئمتنا (ع) التي وفق لها من سار على هديهم والتزم بنهجهم بعيدا عن الاشتهاءات النفسية باختيار بعضها وترك بعض آخر، كما يفعل قسم من الناس في هذا المجال فهذا القسم عنده ان الأصل في المخالف او العاصي او المخطئ هو الحمل على أسوء المحامل، فإن كان هناك احتمال للتقصير، واحتمال للقصور، فيحكم بالتقصير ابتداءً ليبرر لنفسه الهجوم والتوبيخ واللعن والسب، مما ينفِّر الناس عن الدين ويخلق حاجزا بينهم وبين أوامره ونواهيه وارشاداته، ولطالما أوصى أهل البيت (ع) شيعتهم بحسن الخلق بصورة عامة ان كان فيما بينهم او مع غيرهم، فمن وصايا الامام (ع) الاخيرة وقبل استشهاده بأيام: (( ليس من أخلاق المؤمنين الغش ولا الأذى ولا الخيانة ولا الكبر ولا الخنا ولا الفحش ولا الامر به )) (٢)

وقد ورد عنه (ع) ايضاً: (( التودد الى الناس نصف العقل )) (٣)

وكذلك مما ورد عن الصادق(ع) قوله: (( معاشر الشيعة، كونوا لنا زينا، ولا تكونوا علينا شينا، قولوا للناس حسنا، واحفظوا ألسنتكم وكفوها عن الفضول وقبيح القول)) (٤)

وبالعودة الى كلام الامام (ع) نرى انه ابتدأ بالجانب الإيجابي ثم نبه الى الخلل موحياً بأهميته وتأثيره وذلك بقوله (ع): (( الا انه ليس لك معرفة )) وكأنه يريد ان يوصل له رسالة مفادها: ان العمل الصالح الحسن وان كان محبوباً في نفسه ولكنه بلا معرفة واعتقاد سليم لا يكون منجياً في نهاية المطاف.

ثم أعقب هذا التنبيه مباشرة بالنصح والتوصية بطلب المعرفة ( معرفة الاعتقاد الصحيح بالامامة لاهل البيت عليهم السلام)

 

🔶 ٤- بعد أن تلقى (الحسن بن عبد الله) نصيحة الامام (ع) بتجاوز الخلل، وذلك بطلب المعرفة، جاء السؤال المتوقع منه عن طريقة الحصول على المعرفة، فكان جواب الإمام (ع) درساً اخر في الحكمة والمداراة، فقد راعى الامام (ع) الحالة الواقعية الفعلية لإعتقاد ذلك الإنسان وكونه على غير مذهب أهل البيت (ع) فكانت الطريقة بخطوات تدريجية، فارشده الى التفقه وطلب الحديث من فقهاء أهل المدينة ثم العود إليه، وعرض ما تعلمه وحفظه منهم، فإنظر الى حكمة الإمام والعقلانية في تبليغ الحق فلم يقل له مباشرة: ان المعرفة عندي وأنا ممثل الدين الحق ولا يسعك الا الأخذ مني ويثبت ذلك له بمعجزة وينهي الأمر، بل جعله يكتشف ذلك بنفسه بلا ضغط، فما ان ذهب وعاد الى الامام (ع) وعرض عليه ما حفظه وتعلمه من علماء مذهبه حتى قام الامام (ع) بتفنيد اقوالهم وإسقاطها علمياً، وهو المناسب لعبارة الرواية: (( فأسقطه كله )) اي بعد بيان بطلانها بالدليل العلمي، والا فان تصور مجرد رفضها من قبل الامام لا يحقق الغرض من رحلة الذهاب والعودة بما قالوه، وعليه فان الامام (ع) اثبت له ان من تعلمت وحفظت منهم لم يوصلوك الى المعرفة الحقة، فلابد من الأخذ من غيرهم، فكرر الإمام عليه طلب المعرفة، والرواية تصف الرجل بانه كان ((معنياً بدينه)) مهتما بالوصول الى الحقيقة، وحاله الفعلي مقلق له بعد حديثه الأخير مع الامام (ع).

 

🔶 ٥- بعد ان دق ناقوس الخطر في ذهن هذا الرجل بتنبيهات الامام (ع) لم يجد خياراً الا الالحاح على الامام (ع) من اجل انقاذ نفسه من الضلال حيث كان مهيئاً لقبول كل ما يقوله الامام (ع) فقد وثق به تماماً وقد خاطبه بقوله: (( جعلت فداك إني أحتج عليك بين يدي الله فدلني على المعرفة )) وهنا كان مستعداً لتلقي الحقيقة، فما كان من الامام (ع) الا ان اخبره بالاعتقاد الصحيح بما يشمل الولاية والبراءة، فالرواية تقول: ((فأخبره بأمير المؤمنين عليه السلام وما كان بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وأخبره بأمر الرجلين فقبل منه..)) وفي هذا درس بليغ آخر بان الاعتقاد بإمامة اهل البيت (ع) يجب ان يصاحبه البراءة من اعدائهم، فكما ذكر الامام (ع) إمامة امير المؤمنين (ع) ذكر حال الرجلين، وفي رواية (بصائر الدرجات) تصريح بإسميهما، ولا شك ان التطرق اليهما كان من اجل بيان فعلهما والبراءة منه، لانه لايتصور غير ذلك في المقام.

 

🔶 ٦- وفي نهاية المطاف عرّفه الامام (ع) بكونه هو حجة الله وأن أمر الامامة إنتهى إليه، ولكن البيان كان بسلوك اخلاقي رفيع لا غرابة من تمتع الامام به وهو ابن رسول الله (ص)، فالرواية تذكر انه (ع) لما وصل الى نفسه في ذكر الحجج سكت، حتى يسأل السائل عن الحجة في زمانه، فعندما سأل بادره الامام بسؤال عن مدى تسليمه بما يخبره به الإمام (ع) فلما وافق، افصح الامام (ع) عن كونه حجة الله الذي انتهى اليه أمر الإمامة، وما طلبه السائل بعد ذلك من الدليل أمر طبيعي للاطمئنان اتجاه من يدعي لنفسه مقاماً، لذا فان الإمام لم يرفض طلبه او يبدي انزعاجه، لانه من مثل السائل وفي بداية معرفته لهو امر عقلائي، فأقام له الدليل القاطع والسريع عن طريق الإعجاز بتحريك الشجرة وعودتها الى مكانها.

 

والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على محمد وآله ابدا.

عبدالناصر السهلاني

_________________

(١) الكافي:ج١، ص٣٥٢

(٢) الكافي:ج٨، ص١٢٦

(٣) الكافي:ج٢، ص٦٤٣

(٤) أمالي الصدوق: ص٤٨٤




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=165230
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 02 / 26
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15