• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الإمام الهادي.. بَحرٌ من العلم الزخّار : سماحة المرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني حفظه الله تعالى .

الإمام الهادي.. بَحرٌ من العلم الزخّار : سماحة المرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني حفظه الله تعالى

بسم الله الرحمن الرحيم

ثالث أيام هذا الشهر شهادةُ أمينِ وحي الله تعالى، مَن كانت عظمته العلميّة والعمليّة تحيِّرُ عقلَ المتبحرين في مختلف العلوم.

المهم هو أنّ وظيفتكم معرفة الإمام، وطريق معرفته بالعلم، وقد مرّ العمر وما غُصنَا في كلماتهم عليهم السلام، ولم نحصَل حتى على قطرةٍ من بحر علمهم الزخار.

الإعجاز العلمي هو أن أساس الدين ثلاث كلمات:

الكلمة الأولى: معرفة الله، والكلمة الثانية: معرفة رسول الله، والكلمة الثالثة: معرفة خليفة الله ورسوله، وهذه المباحث الثلاثة العميقة، تتبين على يد مستخرج اللئالي من بحر الحكمة الإلهية هذا، لذا أقرَأُ متن كلامه عليه السلام، ثم مَن كان أهلاً يتأمل ويرى أيّ أبواب تُفتَحُ منه:

فَتْحُ بْنُ يَزِيدَ الجُرْجَانِيُّ، قَالَ: ضَمَّنِي وَأَبَا الحَسَنِ الطَّرِيقُ حِينَ مُنْصَرَفِي مِنْ مَكَّةَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَهُوَ صَائِرٌ إِلَى العِرَاقِ، فَسَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: مَنِ اتَّقَى الله يُتَّقَى، وَمَنْ أَطَاعَ الله يُطَاعُ.

جُمِعَت في هاتين الجملتين كلُّ الوظائف العمليّة تجاه الخالق، سواءٌ القلبية والروحية، أو العملية، والإعجاز في العلم أن المطلب قد بُيِّن وقد بُيِّنَت ثمرته أيضاً، فمن اتقى الله اتقاه الجميع، فالأول هو العمل القلبي، والثاني هو ثمرة ذلك العمل: 

وَمَنْ أَطَاعَ الله يُطَاعُ: فمن أطاع الله يكون مُطاعاً، لا مطاعاً من البشر، بل مطاعاً بقولٍ مطلق، فثمرة الطاعة لله أن يصبح المُطيعُ مطاعاً على الاطلاق، وهذه بحارٌ من العلم والحكمة.

وبعد أن قال هذه الجملة قال: أَمَرَنِي بِالْجُلُوسِ، وَأَوَّلُ مَا ابْتَدَأَنِي بِهِ أَنْ قَالَ: يَا فَتْحُ مَنْ أَطَاعَ الخَالِقَ لَمْ يُبَالِ بِسَخَطِ المَخْلُوقِ، وَمَنْ أَسْخَطَ الخَالِقَ فَأَيْقنَ أَنْ يُحِلَّ بِهِ الخَالِقُ سَخَطَ المَخْلُوقِ: ولما أنهى هذه المرحلة بدأ بالمرحلة التي ينبغي أن يدركها إبراهيم الخليل وموسى الكليم وعيسى المسيح عليهم السلام:

 وَإِنَّ الخَالِقَ لَا يُوصَفُ إِلَّا بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ: قول هذه العبارة يحيّر العقل، وقد أبطل بهذا النفي والاستثناء كلَّ ما حاكه البشر عن الله تعالى، فالواصف هو، والموصوف هو، وما نُسِبَ لله تعالى من غيره من الواصفين كلُّهُ مردود، ثم ذكر البرهان، فإن المدّعى توأمٌ للبرهان والاستدلال الذي تدركه كلّ العقول عندما تصل إلى البلوغ:

 وَأَنَّى يُوصَفُ الخَالِقُ الَّذِي تَعْجِزُ الحَوَاسُّ أَنْ تُدْرِكَهُ، وَالْأَوْهَامُ أَنْ تَنَالَهُ، وَالخَطَرَاتُ أَنْ تَحُدَّهُ، وَالْأَبْصَارُ عَنِ الإِحَاطَةِ بِهِ: والمدرَك على أقسامٍ ثلاثة ليس لها رابعٌ: إما مدرَكٌ بالحسّ، وهو إدراك المحسوسات، وإما مُدرَكٌ بالوهم، وهو إدراك الموهومات، فإنّ الصور الجزئية مدركاتٌ للحواس، والمعاني الجزئية مدركاتٌ للأوهام، وأما الحقائق الكليّة فهي مدركات الخطرات، وههنا تُطفَأ الأنوار الثلاثة: الحواس من الإحساس، والأوهام من التوهم، والعقول من التعقُّل، ذاك المدَّعَى وهذا برهانه. ثم يوضحه أيضاً:

جَلَّ عَمَّا يَصِفُهُ الوَاصِفُونَ، وَتَعَالَى عَمَّا يَنْعَتُهُ النَّاعِتُونَ: جلّ وتعالى: الحُّس يريد إدراكَه، وكلُّ الحواس مخلوقةٌ منه، فكيف يمكن أن يتمكن المخلوق من نَيل الخالق؟ وإذا أرادت الأوهام أن تتوهمه فهي أيضاً مصنوعةٌ منه، فأيُّ مصنوعٍ يمكنه إدراك الصانع؟ هذا البِناء لا يدرك البَنَّاء، وهذه الخريطة لا تُحِيطُ براسِمِها، وهذه الصورة لا تُدرِكُ مصوِّرَها. 

نَأَى فِي قُرْبِهِ، وَقَرُبَ فِي نَأْيِهِ، فَهُوَ فِي نَأْيِهِ قَرِيبٌ، وَفِي قُرْبِهِ بَعِيدٌ: فهو بعيدٌ في عين قربه، وقريبٌ في عين بعده، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ﴾،  ومعيّته في حدِّ أن قربه يعني أنّه معك في كل ذرةٍ من ذرات وجودك، ولو لم يكن لم تكن، ولكن في عين الوقت مع كونه قريباً إلى هذا الحدّ، فإنه بعيدٌ إلى حدّ أن كل الموجودات مَحوٌ هناك، أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلَامٍ، وَأَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُور.

من جهةٍ: ﴿الله نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾، ومن جهةٍ أخرى: أَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُور! 

والقيامة الكبرى في العلم هنا: 

كَيَّفَ الكَيْفَ فَلَا يُقَالُ: كَيْفَ؟ وَأَيَّنَ الأَيْنَ فَلَا يُقَالُ: أَيْنَ؟ هو مُكَيِّف كلّ الكيفيات، فمَن كان مُكيّفَ الكّيف، كيف يمكن أن يقال (كيف هو)؟ فكلُّ كيفٍ من صناعته، وهو مؤيّن الأين، وخالق الأين والأينية، فكيف يقال عنه: أين؟ 

هذا هو الإمام العاشر، وهذه علامة الأنبياء من آدم إلى عيسى بن مريم، غاية الأمر أنا كلّنا جاهلون، فمتى عرفناه؟! ثم قال:

إِذْ هُوَ مُنْقَطِعُ الكَيْفِيَّةِ وَالْأَيْنِيَّةِ: روحي وأرواح العالمين لتراب مرقده الفداء، بهم عليهم السلام يُعرَفُ الله، فلو لم تصدر هذه البيانات منهم لكنا في غوغاء المتوهمين، وفي أفكار المتفكرين، وكلُّه مستغرقٌ ومحجوبٌ عنه تعالى، وهو عليه السلام الذي أفهمنا معنى: الله أكبر.

 هُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ: لم يعد هناك وقتٌ لشرح هذه الكلمات، ابتدأ أولاً بـ: هو، لماذا؟ هو يعرف، يا هو، يا من لا هو إلا هو.

هوَ هو، وغيره كله (هذا)، و(هو) تنحصر بواحدٍ، ثم وصل إلى (الْوَاحِدُ) ثم (الْأَحَدُ)، وفي هذا الترتيب أيضاً (شقُّ القمر) فهو (واحدٌ أحد).

الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، فَجَلَّ جَلَالُهُ.

هذا إمام المذهب، إلى هذا الحدِّ مجهولُ القدر حتى عندنا نحن، فكيف إذا وصلت النوبة للآخرين؟! ثم في تتمة الحديث له كلامٌ عن الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أبطل عليه السلام جذور الوهابية بجملةٍ أخرى، وله كلامٌ أيضاً عن الإمامة، وقد أبطل كل المذاهب الأربعة بآيتين، هذا هو أمين الوحي.

إنّ وظيفة أهل العلم أن يُخرِجُوا الناس من خلف سحائب الجهل، إنّ مسؤوليتنا ثقيلة، فإذا سُئلنا أنا وأنت غداً ما الذي قدّمناه له عليه السلام فماذا سنقول؟

هنيئاً لمن يذهب إلى البلاد، ويعرف الناس به عليه السلام، رحم الله من أحيا أمرَنا. 

هنيئاً لمن يرفع راية العزاء في يوم مصيبته، ويواسي وليّ العصر، ويضرب الصدر والرأس على أبيه عليه السلام، هنيئاً لمن يؤدي وظيفته العملية، وما حال من جلس جانباً بعيداً عن دوره ووصفه!

ينقل قطب الدين الراوندي علم الأعلام عن أبي هاشم الجعفري، قال: قلت: يا ابن رسول الله، أنا ساكنٌ في بغداد، وأنت في سرّ من رأى، فإذا أردتُ أن آتي لزيارتك وأعود إلى بيتي يستغرق ذلك أربعة أيام، فماذا أفعل مع شوق رؤياك وضعف بدني ودابتي العاجزة؟!

ولما رأى أنّ هذا المشتاق يتحدث هكذا بنيةٍ صادقةٍ قال له جملة واحدة هي: قَوَّاكَ الله يَا أَبَا هَاشِمٍ وَقَوَّى بِرْذَوْنَك، بمجرد أن قال الإمام عليه السلام هذه الجملة صار هذا الرجل يصلى صلاة الصبح في بغداد، وصلاة الظهر في سامراء مقتدياً بالإمام العاشر، والعصر في بيته في بغداد، بهذه الجملة.

يروي أبو هاشم أيضاً فيقول: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي الحَسَنِ عليه السلام إِلَى ظَاهِرِ سُرَّ مَنْ‏ رَأَى نَتَلَقَّى بَعْضَ القَادِمِينَ، فَأَبْطَئُوا، فَطُرِحَ لِأَبِي الحَسَنِ عليه السلام غَاشِيَةُ السَّرْجِ فَجَلَسَ عَلَيْهَا.. فَشَكَوْتُ إِلَيْهِ قُصُورَ يَدِي وَضِيقَ حَالِي، فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى رَمْلٍ فَنَاوَلَنِي مِنْهُ أَكُفّاً وَقَالَ: اتَّسِعْ بِهَا يَا أَبَا هَاشِمٍ، وَاكْتُمْ مَا رَأَيْتَ.

فَخَبَأْتُهُ مَعِي، وَرَجَعْنَا فَأَبْصَرْتُهُ فَإِذَا هُوَ يَتَّقِدُ كَالنِّيرَانِ ذَهَباً أَحْمَرَ.
فَدَعَوْتُ صَائِغاً إِلَى مَنْزِلِي وَقُلْتُ لَهُ: اسْبُكْ لِي هَذَا، فَسَبَكَهُ وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ ذَهَباً أَجْوَدَ مِنْهُ.

ذاك لسانهُ ودعوته، وهذه يدُه وفعله.

غداً شهادة الإمام العاشر عليه السلام، فهل عرفنا نحن الإمام العاشر؟

ورد في حديث اللوح تعبيرُ الله تعالى عن الإمام العاشر عليه السلام بأنّه: أَمِينِي عَلَى وَحْيِي‏: أي أنّ الوحي المنزل على 124 ألف نبي كلُّه عند الإمام العاشر عليه السلام، فثبت بقول الله تعالى (أَمِينِي عَلَى وَحْيِي) أنّ أمين كلّ الوحي من آدم عليه السلام إلى الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام علي النقي عليه السلام. 

فهل فَهِمنا هذه الكلمة؟ ما هي معرفتنا نحن بإمامنا العاشر؟ قبل أن تصل النوبة للآخرين.

لقد صمّم المتوكل على إذلال الإمام عليه السلام، والمتوكل العباسي بلا دين، وكان قد بنى الملوية في سامراء، وكان يصعد بالحصان إلى قمتها، وكلّ رجال البلد كانوا أسفلها، وكان يعطي أمراً أن يكونوا جميعاً مشاةً وهو الراكبُ وحده، وكان الإمام العاشر يسير مشياً في ركاب المتوكل، فسأله عن حاله فأجاب: أَنَا أَكْرَمُ عَلَى الله مِنْ نَاقَةِ صَالِحٍ ﴿تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾، وهذا وعدٌ ليس في طريقه كذب، وفي الليلة الثالثة قَتَلَ ابنُ المتوكل أباه، هذه هي الإحاطة.

في أيام المتوكل كانت أمور الجيش قد أنيطت بالأتراك، وكان رأس ورئيس الترك (بغاء) ويروي أبو هاشم الجعفري أنّ الإمام عليه السلام قال: 

اخْرُجُوا بِنَا حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى تَعْبِيَةِ هَذَا التُّرْكِيِّ، فَخَرَجْنَا فَوَقَفْنَا، فَمَرَّتْ بِنَا تَعْبِيَتُهُ، فَمَرَّ بِنَا تُرْكِيٌّ فَكَلَّمَهُ أَبُو الحَسَنِ عليه السلام بِالتُّرْكِيَّةِ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ، فَقَبَّلَ حَافِرَ دَابَّتِهِ، قَالَ: فَحَلَّفْتُ التُّرْكِيَّ وَقُلْتُ لَهُ: مَا قَالَ لَكَ الرَّجُلُ؟

قَالَ: هَذَا نَبِيٌّ. قُلْتُ: لَيْسَ هَذَا بِنَبِيٍّ. قَالَ: دَعَانِي بِاسْمٍ سُمِّيتُ بِهِ فِي صِغَرِي فِي بِلَادِ التُّرْكِ مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ إِلَى السَّاعَة.

أيُّ إحاطةٍ هي هذه؟ الإمام العاشر عليه السلام في سامراء مطَّلِعٌ على كلّ شيء، غاية الأمر، أن الجهل قد أصاب الجميع!

ولو كان هناك عِلمٌ لكان ينبغي على هذه الدولة أن تكون من رأسها لقدمها صفاً ولواءً واحداً في العزاء والمأتم!

قولُ هذه العبارة سهلٌ، لكن معرفتها من أصعب الأمور: أَمِينِي عَلَى وَحْيِي، عليُّ بن محمد الهادي عليه السلام.

من كتاب (أنوار الإمامة) ص404.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=164506
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2022 / 02 / 04
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 16