الأرض مكفهرة ,كأنها قاعُ صفصفُ. السماء مدلهمة يمور فيها غضب اسرافيل وعزرائيل .. أجساد مجزرة , وأعضاء مبعثرة .. يشع منها نور يشبه انبلاج عمود الفجر ,فيتلاحم مع عنكبوت الشمس . حبات الرمال تتلآلآ بالوان الفاجعة , كثبان كأنها العقيق المدملج , ضحايا حقد دفين , وثأر من غير ترات . ساحة الوغى لانبض للحياة فيها , الا من هيكل اللاهوت , يسبّح في غمرات العلى . ثابت الأقدام كأنه برزخ يصد هجمات الظلم والعدوان عن حرم النبوة والقداسة . يقف الجواد على مقربة من الجسد المسجى . يحمحم هائجا بوجوه القوم . تقدح عيناه شررا . يقول احدهم: عليكم بالجواد فانه من أصائل الجياد . يجازف واحد منهم . يقترب حذرا , وبعينيه نظرة ذئبية خبيثة . يرفسه الجواد بقائمتيه الخلفيتين , فيرديه صريعا . يحجمون عن الاقتراب منه , خائبين عن الفوز بالغنيمة . يتصايحون فيما بينهم : ان لم تستطيعوا الفوز به فارضخوه بالحجارة او ارشقوه بالسهام .
يضرب حوافره في الأرض , تاركا أثرا عميقا في الرمال الساخنة . يثب منفعلا وثبات قصيرة . السهام تمخط من جانبه حينا وتصيبه حينا , رشق الحجارة يتوالى ..يتقهقر الى حيث جسد فارسه , الذي ترجل عن صهوته رغما عنه الحيوان الأعجم يستشعر خبث القوم ودغل سرائرهم . ينكس رأسه بين قائمتيه الأماميتين . يدور حول الجسد المسجى كالقربان . يتشممه بعرفه . يمسح ناصيته بالجروح النازفة , فتتلون غرته البيضاء بلون احمر . تربكه رائحة الدماء الزاكية , ينفخ الهواء من منخريه , مستحثا فارسه على النهوض , وانى له النهوض وقد أرهقته كثرة الجراح , وألم هواكثر إيلاما من جراحاته .. ان امة جده قد خانت أمانتها . يرمق مخيم عياله بطرف غشيته سحب الموت المتدافعة . الجواد يطلق صهيلا موحشا وعاليا ,يسلب الأرواح من الأبدان . كأنه يقول : انهم يأتمرون بك ليقتلوك . ماهذا أوان نومتك ياحسين السماء المربدة تظلم شيئا فشيئا . الأفلاك المتصادمة تبدو واضحة في عز الظهر , تمتد يد عظيمة من عمق غير مرئي .. تصبح قاب قوسين او ادنى من رؤوس الكائنات الممسوخة , التي فقدت إنسانيتها عند أول منعطف . صوت اصطكاك يصم الأذان الموقورة تصرخ مجموعة منهم : القيامة قامت لموت ابن فاطمة !!
يصيح بهم شمر : لايهولنكم سحر ابن ابي تراب , لطالما سحروا اعين الناس . قلب زينب المعنّى بحب الولي يزداد وجيبه .. عمود النور المنبثق من سبحاته الى عنان السماء .. بدأ يخفت تدريجيا , وسحب كأنها الغرابيب السود تتدافع راكضة نحو عين الشمس الدامية . غمامة من الغبار تتصاعد من صعيد الرمال . تسمع النسوة صهيل الميمون , فتشرأب أعناقهن متطاولات ,وإحداهن تلوذ بالأخرى . زينب تبصر جواد اخيها من خلال غشاوة دموعها , وقد عاد مخزيا وسرجه ملويا . تضع يديها على رأسها , وتصرخ مولولة : هتك والله ستر النبوة المسدل .
تحدث نفسها بصوت مسموع : انقضى زمن عزك وسرورك يازينب . صهيل الميمون يطغى على بقية الأصوات , وكأنه عويل امرأة ثكلى ذبح وحيدها في حجرها . زينب تجرجر أذيالها وقد ارتعدت اعضائها : اخي ياحسين احقا رشح جبينك للموت . الجواد صافن , وقد نكس رأسه المعفر بالدماء . تسقط متكومة عند قدميه ,غارقة في دوامات حزنها . تتذكر نداء اخيها لما خلت الخيام من الرجال : الا من يقدم لي جوادي . ينشعب قلبها من الأسى . تتجرع غصتها , وتأتي بالجواد قائلة : ماأقسى قلبي , بيدي أقدم لك فرس المنية . سهمت عيناها , تتراءى لها خطوات الفراق الأولى , والميمون يخب الى ارض المعركة . وجع مصيبتها يذبحها بموس صدئة مرارا وتكرارا .. صراخ الأيتام المروعين , والنساء الثكالى يضج في رأسها . قالت تخاطب الميمون : أراك عدت خاليا .. أين خيّالك .. اين تركت أخي ؟ يهمهم الجواد كأنه فهم مغزى كلامها . تدمع عيناه . ترجع مذهولة تناشده : تركت حسينا صريعا على الرمضاء ,تصهره حرارة الشمس , هذا الذي كان جده يتأذى لبكائه صغيرا . عند هذه الكلمات , رأت جدها قابضا على شيبته الشريفة . ينظر تارة يمينا وتارة شمالا . صاحت مفجوعة : ياجداه يارسول الله .. هذا حسينك صريع بالعراء .
قالت المرأة المسبية بالهم : أين انت ياحسين عن صواوينك ,أما ترى مايفعل القوم بنا , أما ترى خيامنا تحترق ؟ ومن هناك , عبر صحراء الالم الشاسعة . ودروب الفراق المتقاطعة ,رقد حسين وقد صنع له وسادة من الرمال . محدقا بعياله , وروحه تتلجلج بين جنبيه مؤذنة بدنو الرحيل . تقف زينب وحيدة .. مكدودة . ترفع إمارات العزة شعارا , ومظلومية الغريب دثارا, تردد صوتها نواويس كربلاء : الا من ذاب يذب عن حرم رسول الله ؟ فتأن لها صم الصخور , وتعجب لصبرها ملائكة السماء .يستشيط الميمون غضبا ويعدو .. صارخا في عروش الاحقاف الخاوية .. الظليمة .. الظليمة .
|