تختلف الأذواق، وتتنوع الفنون، ويتسابق محبو الجمال للحصول على كل ما يشعرهم بالذوق الرفيع، ويبقى صانعو الجمال محاطين بهالة من الندرة، حتى باتوا يُعدُون على الأصابع.. وهذه هي سمة الفن الراقي في كل العصور.. صدى الروضتين التقت (موفق النقاش) لتتعرف على بدايته في ممارسته لهذه المهنة:
صدى الروضتين: كيف بدأتم مهنة النقش على الأحجار الكريمة؟
ما أفادني كثيراً في مهنة النقش على الأحجار الكريمة أنني ممارس للخط العربي، فبعد تخرجي من كلية الفنون الجميلة مارست الخط العربي كمهنة، وكنت أعمل في أحد المكاتب نصنع الاعلان التجاري للمحلات، ونخط اللافتات وغيرها من الأعمال ومارسته كفن؛ فقد كان لي الكثير من المشاركات في المعارض والمسابقات المختصة بالخط العربي، وكذلك شاركت في المعارض التي تقيمها مديرية تربية كربلاء، وحصلنا على المركز الأل بالنسبة لمحافظات العراق في إحدى سنوات المشاركة، وكان عندي رصيد من اللوحات الفنية في الخط العربي، ولكن مع الأسف لم يتبقَ منها إلا القليل جداً، ولم أكن أفكر في الدخول الى عالم النقش على الأحجار الكريمة، وبصراحة كان عندي خوف من هذا المجال؛ لأن مساحة العمل ستكون على الأحجار الكريمة التي أغلبها يكون من النوع الثمين فأقل خطأ يحدث سهواً في نقش الحجر الكريم قد يكون بالنسبة لي خسارة كبيرة، ولكن أحد الأصدقاء وهو السيد (سعدون) شجعني على الخوض في هذا المجال وهو الذي كان صاحب المحل الذي اعمل فيه الان، وهذا الرجل صاحب فضل عليّ، فقد قام بشراء جهاز للحفر على الأحجار، وهذا الجهاز يستخدمه أطباءُ الأسنان، وبدأت بتمرين النقش على الزجاج، لما تتوافر فيه مساحة أكبر من مساحة الحجر، ولسهولة النقش على الزجاج.. وحتى لو حدث خطأ في العمل، فالزجاج لا قيمة له تقريباً.
بعدها بدأت بالنقش على الأحجار الرخيصة، كالعقيق الخراساني، ومن ثم الدر؛ لأن قيمته قليلة نوعاً ما، وكانت الأجهزة التي نستعملها من النوع القديم، وأغلبها نحصل عليها مستعملة، ولكونها مستعملة لذا تجدها مستهلكة في بعض أجزائها؛ فبالتالي يكون عمل هذا الجهاز غير دقيق لاستهلاكه كما قلنا، فبالتالي يؤثر على نوعية النقوش التي ننقشها على الحجر في ذلك الوقت.
فن النقش على الأحجار يعتمد على أمور كثيرة، منها الممارسة المستمرة، والخبرة في توزيع الكلمات والحروف على مساحة الحجر الكريم، والدقة في التعامل مع كل حجر لاختلاف الأحجار في الصلابة والمساحة، وكذلك اختلاف العبارات التي تكتب عليها، فيجب أن يكون عند النقاش المعرفة الكافية بنوعية الأحجار، وبأسلوب التعامل مع كل حجر.. هذا فضلاً عن كيفية توزيع العبارات الطويلة، كأن تكون بعض السور القرآنية على هذه المساحة الصغيرة.
في السابق كنت أقوم بتخطيط (الفص) لغرض توزيع الكلمات عليه بشكل صحيح بدون زيادة أو نقصان، وبعد الممارسة الطويلة تركت رسم الخطوط إلا فيما يتعلق ببعض العبارات التي فيها أحرف متشابهة، فتحتاج الى استقامة او الى انحناء معين، فأقوم برسم خط مستقيم وسطي أو منحني لرسم الحروف، حتى تكون الحروف بمستوى واحد، فيكون لها جمالية أكثر مما لو كان الخطُّ عشوائياً.
أما بالنسبة للتشكيلات الخطية فهي تخضع أولاً لشكل الحجر، كأن يكون مربعاً أو مستطيلاً أو دائرياً أو بيضوياً إلى آخره.. فيكون التوزيع تابعاً لشكل (الفص) ولطول العبارة. أما عن نوعية الخط فتكون تابعة لطريقة صقل الحجر، وحسب ما يصطلح عليه عند النقاشين وأرباب هذه المهنة بـ (الچراخة)؛ فهناك چراخة تسمى الكوفية، وأجمل ما يكون عليها النقش بخط الثلث أو الخط الكوفي.. أما الفصوص المحدبة فنخطها بخط التعليق أو ما يسمى (الخط الفارسي) لكثرة الانحناءات في هذا الخط، والتي يمكن أن تتناغم مع انحناء الحجر نفسه.
أما ما يخص صلابة الأحجار، فهي مختلفة من حجر لآخر، مما يضطرنا الى أن نزيد الضغط بجهاز الحفر على الحجر الصلب، ونخفف الضغط مع الأحجار الهشة أو قليلة الصلابة، مثل الفيروز، والحديد الصيني.. وهذا الأمر لا يمكن معرفته إلا من خلال الممارسة الطويلة. ويجب أن يكون النقاش حذراً جداً مع بعض الأحجار الصلبة؛ لأنها بزيادة الضغط تتعرض للتصدع، وينبغي التعامل معها بطريقة خاصة كي لا يتلف الحجر ويسبب خسارة مادية.
صدى الروضتين: هل صادف أن تلف عندك حجر كريم أثناء النقش؟
قد تحصل حالات بالنسبة للنقش اعتبرها أنا خطأ؛ لأننا نتعامل مع فن الخط، والخطوط لها قياسات خاصة بكل نوع من أنواع الخط؛ فقد حصل معي أكثر من مرة أنني قمت بنقش أحد الأحجار، وبعد الانتهاء وجدت أن نِسَب الحروف في بعض الكلمات غير صحيحة، لذلك قمت بـ(چراخة) الحجر لإزالة النقش القديم، ونقشته مرة ثانية، لإحساسي بأن هناك خللاً في تركيب الكلمات، أو تقصير في بعض الحروف.. ودائماً حين تحصل مثل هذه الأمور بسب مشكلة أو انشغال بال قد يسبب ارباكاً بالنسبة للعمل، وخصوصاً عمل النقاش يحتاج الى تركيز كبير.. أما أطول سورة نقشتها، فكانت سورة (ياسين) على فص (در النجف)، ولم تواجهْني صعوبة في نقشها إلا في البداية، فكانت بدايتي من مركز الفص وإنتهاء بجوانبه.
صدى الروضتين: هل هناك أوقات خاصة يتم النقش فيها، وما هي فائدة النقش في هذه الأوقات؟
بالتأكيد هناك بعض الأحجار لها أوقات خاصة للنقش، أما البعض الآخر فليس له وقت محدد، فمثلاً الحديد الصيني له وقت خاص بالكتابة وهو السابع والعشرون من رجب، وهناك الأحجار التي تنقش عليها النقوش الرجبية، تكتب من أول الشهر الى نهايته بدون تحديد، وهناك نقوش في الثالث عشر من رجب مثل نقش (صراط علي حق نمسكه)، وهناك بعض النقوش على الحديد الصيني أول جمعة من رمضان، وكذلك نقش على العقيق الأصفر في الخامس عشر من رجب.. ومن الأمور المجربة التي حصلت كثيراً لبعض النقوش أن الآية الكريمة: (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) تنقش على الفيروز لطلب الذرية. أما نقش الحديد الصيني فينفع لقضاء الحوائج، وتسهيل الأمور، وتسهيل الولادة بالنسبة للنساء.
أما عقيل النقاش المعروف بـ (الشيخ عقيل)، فأجابنا عن بداياته مع هذه المهنة قائلاً:
قبل بدايتي مع مهنة النقش على الأحجار الكريمة، كنت أمارس مهنة الخط على اللافتات والاعلانات التجارية؛ لكوني خريج كلية الفنون الجميلة قسم الرسم، إضافة الى ذلك، كنت أعمل في النقش على القوالب، وعملت في النقش على الكاشي الكربلائي، لكن الخط على الأحجار الكريمة كان بالنسبة لي شيئاً جديداً، ولم يكن في كربلاء من يحترف هذه المهنة.. وفي إحدى زياراتي للكاظمية، استهوتني طريقة النقش على الأحجار حين رأيت أحد النقاشين، وقد أخذت له خاتماً لينقش لي عليه، ففكرت بالتجربة، وكان جهاز النقش - وهو جهاز يستخدمه أطباء الأسنان - غالي الثمن، وبتشجيع من بعض الإخوة، اشتريت الجهاز وبدأت بالنقش على العقيق الخراساني؛ لكونه رخيص الثمن، وكنا ننقش أعداداً كبيرة من هذا الحجر، ومن ثم على (الدر). وبالتدريج وبعد الممارسة، ازدادت خبرتي وصُقلت، وبدأت بنقش الأحجار الغالية الثمن، وكنت في هذه الفترة احتك ببعض الخطاطين من مدينة النجف والكاظمية، وكنت أسألهم عن بعض الأمور، وكانوا يعطونني بعض الملاحظات، وكذلك كنت أتابع الخطوط والنقوش على الأحجار الكريمة القديمة, وبدأت أعمل نماذج على الورق، فتكون مهيأة، وعندما يُطلب مني نقش أعرض للزبون النقوش التي على الورق ويختار منها ما يريد، فكانت النماذج التي أعملها اضافة الى التشكيلات الجاهزة لخطاطين قدماء موجودة عندي، ويبقى الاختيار حسب ذوق ورغبة الزبون.
صدى الروضتين: هل هناك صعوبات واجهتك في هذه المهنة؟
طبعاً، الصعوبة في الطريقة التي ترسم بها الحروف، فالخط بواسطة القصبة على الورق يختلف عن الخط بالجهاز على مساحة صغيرة، مثل مساحة الحجر الكريم، فضلاً عن دورة (البريمة) التي تكون دائما لليمين، بينما بعض الخطوط فيها ميلان لليسار، إلا في خط التعليق الذي بطبيعته مائل لليمين، فيكون النقش بخط التعليق أسهل من باقي الخطوط.
ولما تجاوزت مرحلة الصعوبة في الخط وطريقته، بدأت مرحلة جديدة وهي المنافسة في اظهار الخطوط بمظهر وبصقل أجمل؛ وهنا بدأ كل خطاط باستخدام طريقة خاصة لإظهار النقش بصورة أجمل، فمنهم من استخدم مادة (الوارنيش) لإضفاء لمعة على الخط أو (الوارنيش) مع مسحوق ذهبي أو استخدام الحبر الأبيض، ومنهم من استخدم طريقة النقش تحت الماء، لكي يحافظ على نظافة الحرف وصفائه.. هذا فضلاً عن استخدام نوعيات مختلفة من (الكترات) للحصول على نتائج افضل، ولذلك نرى أن لكل منطقة اسلوباً خاصاً؛ ففي الكاظمية لهم أسلوبهم الخاص، وفي النجف لهم أسلوب مختلف، وفي كربلاء تجد الاسلوب يختلف عن الاخرين.. علماً أن الأجهزة الحديثة في الحفر تختلف عن القديمة، فهي أخف وزناً واكثر سرعة؛ لذا فالعمل بالجهاز الحديث أسهل بكثير وأجمل من العمل بالجهاز القديم. أما احتفاظي بالجهاز القديم؛ فلأني اعمل كذلك بالنقش على الفضة، ولا يمكن الحفر على الفضيّات بالجهاز الحديث لعدم تحمله لجهد كبير.
صدى الروضتين: أين ترى الصعوبة، في تشكيلة الآية أم طول الآية أم السورة؟
الطول لا يمثل مشكلة بالنسبة لي، فقد نقشت سورة الواقعة وياسين والرحمن لكنها متعبة؛ لأنها تأخذ وقتاً، ويجب أن يكون فيها تركيز حتى لا تنسى حرفاً أو كلمة، ولاتكون كتابة السورة الطويلة بالمهارة العالية التي تكتب فيها العبارات القصيرة، ولكن يجب أن تكون مقروءة والكلمات غير متداخلة مع بعضها، حتى إذا أراد أحد أن يضع مكبرة ويقرأها يستطيع قراءتها بسهولة، وأنا أستخدم طريقة هي أن أكتب البسملة في الوسط بشكل معتنى به، وأرسم شكل وردة حول البسملة، وأكتب السورة داخل أوراق الوردة، أو أرسم شكلاً سداسياً، أو ثمانياً، وأوزع الكتابة بداخله.. هذا بالنسبة للسورة الطويلة، ولكن أهم شيء هو أن لا تكون السورة ناقصة.
أما بالنسبة للكلمات القليلة، فيُراعى فيها الجانب الجمالي وخاصة ما ورد في الكتابة الموجودة على خواتم النبي والآئمة المعصومين (صلوات الله عليهم)، وبعض العبارات والآيات التي ورد الحث على كتابتها عن المعصومين (ع). وسابقاً لم نكن نستخدم الزخرفة، أما الان فلشدة المنافسة، بدأنا بإدخال الزخرفة على النقوش لزيادة جماليتها.
صدى الروضتين: ماهي العبارات الأكثر طلباً بين الناس؟
العبارات المكتوبة على خواتم الأئمة (ع) وبعض الآيات المشهورة مثل (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ..)، وتكتب للرزق على عقيق أصفر، ومنها ما يصطلح عليه بالجلالات السبعة تنقش على الحديد الصيني خاصة لما روي عن الإمام الصادق (ع) رواية بهذا الشأن، ومنها الاية (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) وتنقش على الفيروز النيشابوري لطلب الولد، وهناك بعض الطلاسم للحفظ أو للحسد أو لغيرهما.
صدى الروضتين: هل تنقشون على جميع الأحجار الكريمة والمعادن؟
هناك أحجار صلبة لا يمكن النقش عليها، كالياقوت والزمرد والماس لصلابتها، لكن أكثر ما ينقش هو ما ورد عن الأئمة (ع) باستحباب نقشها، فضلاً عن نقش بعض المعادن والحلي، كالذهب والفضة، وكذلك على القامات والسيوف، وبعض القوالب التي يستخدمها الحرفيون.
|