دلت التجارب البشرية أن الفكرة أو النظرية أو المعتقد لا يمكن فرضها على مجتمع أو أمة تحت أسنة الرماح وبمخالب العنف؛ لأن القبول بأي معتقد وبالإكراه وفي مقطع زمني، سيؤول بعد فترة ولو طالت إلى ردة ربما أشد من صدمة القبول الأولي المرغم، فالإنسان لا يمكن قسره على الإيمان بشيء، إذا لم يتقبله طواعية، حتى وإن كانت الغلبة العددية لأصحاب الفكرة، ولذلك امتنع الرسول محمد (ص) عن إدخال الناس في دين الله تحت حد السيف، رغم الضغوطات التي مارسها بعض الصحابة، بعد أن ازدادوا عدةً وعدداً لإعمال القوة وجر الناس إلى الدين الجديد، فما لم يقدره الخالق لنفسه رغم خالقيته للبشر، فمن باب أولى لا يقدِّره لنبي أو مرسل أو إمام، فشعار الجميع هو الإصلاح، والإصلاح لا يأتي بالقهر، وإن أتى فهو إيمان مهزوز قابل للتبخر عند رفع غطاء القهر.
ودلت التجربة أيضا أن المجتمع الذي يتقبل فكرة وإن أتته من خارج محيطه الجغرافي والبيئي، يكون شديد الحرص على التمسك بها والدفاع عنها والترويج لها؛ لأن القناعة بالفكرة والإيمان بها من أقوى الدفاعات الأمامية في حرب الأفكار والمعتقدات التي يشنها الآخر العقيدي، فربما أصاب الترهل المجتمع الذي انبثقت فيه العقيدة ولكن تبقى مجتمعات الأطراف أو المتوزعة هنا وهناك، والمتوحدة عقيدياً مع المركز، هي الحارسة له لا بالتبع والعمالة، كما هو في المفهوم السياسي السائد، وإنما لإيمان متجذر في النفوس تقبلته المجتمعات البعيدة عن وعي وإدراك، ومن يؤمن بعقيدة يدافع عنها وإن كانت الممارسات في جانب منها لا تتوافق مع أصل المعتقد.
وحينما يتم الحديث عن الوجود الإسلامي في الأميركيتين الشمالية واللاتينية، تتوضح بجلاء صورة الإسلام الذي غزا القلوب تحت سنابك خيل الإيمان الطوعي، وكلما تعرفت الشعوب الأميركية على حقيقة الإسلام انشرح صدرها له؛ لأن الإنسان بطبعه ميال إلى القوة التي تنتشله من واقعه المرير، ممزوجاً بإحساس دفين إلى التكامل والرقي، ونيل أعلى مثل وقيم مكارم الأخلاق، وهذه المثل المتصلة بسبب بين الأرض والسماء، يجدها المرء في تعاليم الإسلام. ولا شك أن لحركة هجرة المسلمين نحو الأميركيتين في القرون الماضية، الأثر الكبير في نشوء مجموعة مسلمة زحفت عقائدياً وسلمياً على السكان الأصليين، وهذه الحركة نجد بعض تفاصيلها في الكتاب الذي صدر حديثا عن (بيت العلم للنابهين) ببيروت في 64 صفحة من القطع المتوسط، للدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي بعنوان (الإسلام في الأرجنتين).
هجرات قسرية وطوعية
يعود وجود المسلمين في الأرجنتين (بلاد الفضة) إلى العهود الأولى لاكتشاف القارة الأميركية، ويرى البعض أن الأندلسيين المسلمين الذين تنصَّروا قهرا بعد سقوط الأندلس عام 1493م والذين يسميهم الإسبان بالمورسكين، هم أول المهاجرين المسلمين إلى الأرجنتين، وتعرضوا فيها لما تعرض له إخوانهم في الأندلس، ولاسيما وأن الأرجنتين كانت واقعة تحت سلطة الإسبان، وفيما بعد جرت هجرات لمسلمين وعلى مراحل، وبخاصة من بلاد الشام، كان أصحابها يبحثون عن الأمن والإستقرار. وشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، هجرة كبيرة للعرب من سوريا، وأعقبتها هجرة ثانية في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي، وازدادت أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، على أن معظم المهاجرين هم من العرب المسيحيين.
وليس هناك إحصائية ثابتة حول عدد المسلمين في الأرجنتين، فبعض المصادر تقدرها بنحو 900 ألف مسلم أي 2,5% من مجموع السكان البالغ عددهم أكثر من 37 مليون، يعيش الكثير منهم في العاصمة، لكن بعض المراجع الإسلامية المهتمة، تقدر عدد العرب من المسيحيين والمسلمين بنحو مليون معظمهم من سوريا، وبعضهم يصل بالعدد إلى 3,5 مليون خُمسهم يعيش في العاصمة (بوينس آيرس) ومنهم 200 ألف من المسلمين، ولكن من الثابت أن حركة إقامة بناء المساجد والجمعيات بدأت تزداد ولكن ببطء.
|