قال تعالى: ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)) الفرقان: 63. إنّ هدف خلق الانسان هو عبادة الله عز وجل، حيث قال عزّ من قائل: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) الذاريات: 56..
والعبودية تعني التسليم التام لله تبارك وتعالى في كل أموره، والعمل بما يرضيه.. وفي الآية الكريمة محل البحث وصفهم بعباد الرحمن، أي أضافهم الى نفسه، لتدل على عظيم شأنهم.
ومن ثم تطرقت الآية إلى صفات هؤلاء العباد بأنهم (الذين يمشون في الأرض هوناً)، والمشي هنا عبارة عن العيشة التي يعيشها الانسان وكيفيتها، والهون هو التذلل، ولكن هذا التذلل يكون لله عز وجل، والتواضع للعباد، فعن الإمام العسكري (ع): ((من تواضع في الدنيا لإخوانه، فهو عند اللَّه من الصدّيقين، ومن شيعة عليّ بن أبي طالب (ع) حقّاً))، فالانسان عندما يرى غيره من الناس فلا يترفع عليهم، فمن قال بأنك أحسن منه، لذا يجب على العبد أن يرى في الانسان بأنه أحسن منه، حتى لو كان في الظاهر بأنه سيء، فقد يكون باطنه حسن، فلا يعلم البواطن إلا الله، وحتى لو عرف باطنه، فمن يعلم ما هي عاقبة الأمر؛ ومن ثمّ ما هو قدره أمام عظمة الخلق من السماوات والأرض: ((أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا)) النازعات: 27، حتى يتبختر ويتكبر على غيره، فالكبرياء رداء الله، فمن نازعه كبرياءه أكبّه اللهُ في النار على وجهه. فلابد للعبد من بعد الانقياد لأوامر الله ونواهيه، أن يتواضعَ للناس ويكون ذليلاً عليهم ((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ))، لا أن يتملق ويتخوف من الأغنياء، وأصحاب النفوذ، فيضيع دينه، فقد قال أمير المؤمنين (ع): ((من أتى غنياً فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه))؛ لأنه بذلك يراهم بأنهم أخوف من الله، بينما قال الله تعالى: ((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)) المنافقون: 8، وقوله: ((أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) المائدة: 54..
وبعد أن أثبتت الآية صفة عباد الرحمن، انتقلت إلى الجانب الآخر وهم الجاهلون، فكيف تكون معاملة العباد لهم فقالت: ((قالوا سلاماً))، وهذا القول ليس لفظاّ فقط، بل إنّ العبدَ عندما يرى فعلاً من الأفعال التي يفعلها العاصون والمنافقون والكفرة، أن يتجنبهم ولا يرافقهم، ولا يشترك معهم بأعمالهم ويؤيدهم، لكي لا يخرج من دائرة العبودية، فيصيبه ما ادخر لهم سبحانه وتعالى من العذاب الأليم: ((وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)) القصص: 55..
وبعد ذلك، ذكرت الآية التي بعدها بأن هؤلاء العباد يبيتون سجّداً لله: ((وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا))، وفي السجود سرّ لا يعلمه إلا الله، والراسخون في العلم، لما فيه من الفضل العظيم، فهو في الحقيقة التذلل والانقياد التام لله تعالى، ويتجلّى هذا السجود في الساعات المتأخرة من الليل، عندما يختلي العبد بربه، ولايعلم حقيقة هذا السجود إلا من عاشه وخرق الحجب، فاختلجت نفسه، وسارت به إلى عوالم أخرى، فكان قريباً من ساحة الربّ العظيم.
خلاصة الكلام، بأن الانسان لكي يصل إلى مرحلة العبودية، لابد له من أن يتصف بصفات ذكرها القرآن الكريم، وأوضحها الرسول الكريم وأهل بيته الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين، وأن لا يتكبر على بني جنسه، بل أن تكون صفته التواضع، لا أن يستنزل عطف وشفقة العصاة والمنافقين والجبابرة، فبأيدينا أن نكون من الصنف الأول أو الثاني...
|