• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : المنهجية المقحمــــة (المناهج المعاصرة) الجزء الثاني .
                          • الكاتب : هيام عبد زيد عطيه .

المنهجية المقحمــــة (المناهج المعاصرة) الجزء الثاني

  لقد حاول بعض النقاد المعاصرين، اختصار الطريق إلى المناهج الحديثة، بأن نَسَب جذورها إلى التراث المعرفي العربي، لاغياً بذلك الكثير من الأسئلة الصعبة التي تثور بمجرد القراءة في المدونة المعرفية العربية، ولعل أهم هذه الأسئلة: كيف تسنّى للنقاد الغربيين الإحاطة بكل تلك المناهج التي تبدو ملامح كثير منها واضحة، في مؤلفات نقادنا القدامى، بينما لم يستطع النقد العربي الحديث فعل ذلك؟
وجاءت دراسة (الاصول) للدكتور تمام حسان، مملوءة بتحليلات وطروحات بنيوية، تمسّ جوهر الفكر اللغوي العربي، فقد طبق قواعد المنهج البنيوي في دراسة الكتب البلاغية، وأخذ يصرّح بأنَّ من علماء البلاغة والنقد من عرف المنهج البنيوي، وأقام الدرس النقدي عليه، قال عن قدامة بن جعفر: (لقد انطلق قدامة من الرغبة في إقامة هيكل بنيوي تجريدي، ذي أصناف وتعريفات، يشبه إلى حد كبير تصنيفات المناطقة أو تصنيفات النحاة). ولا يمضي الدكتور حسان في قراءته للبلاغة العربية، بعد الحواشي والتلخيصات قليلاً، حتى يصرّح بأنها (لم تعد سلماً إلى التذوق، وإن أصبحت دراسة هامة تقع في نطاق ما يُعرف في اللغويات الحديثة بالأسلوبيات).
 وواضح بما لا يقبل الشك، ان لا قدامة ولا البلاغة، عرفا شيئاً من نتاج الثقافة المعاصرة، على فرض أن تلك الثقافة ليست بأفضل من البلاغة والنقد القديمين. ولعل الدكتور حسان كان يقصد في كلا الحالين، عقد تشابه من نوع ما، بين منهج قدامة والبنيوية من جهة، وبين حال البلاغة في عصر ما بعد الحواشي والأسلوبية من جهة اخرى، بيد أن هذا التشبيه جاء في سياق عبارة توحي بأكثر من هذا المقصد، ولربما تحتاج إلى إعادة نظر وسبك.
 وليس أقرب مثلاً ينفع في هذا المقام، من عبارة للدكتور (جابر عصفور) ساقها في موضع مشابه، إذ قال وهو بصدد الحديث عن ابن طباطبا: (يدخل بنا إلى آفاق جديدة، تتصل بجوهر العقل التعبيري للشعر، من حيث صلة هذا العقل بالمبدع، وصلته بالمتلقي في نفس الوقت... وليس من الضروري أن نقارن بين ابن طباطبا وتصورات حديثة، بل من الأفضل أن نقارن نتائجه التي توصّل إليها ببعض ما كان مألوفاً ومتاحاً في القرن الرابع للهجرة داخل كتابات المتفلسفة). فقد امتنع عصفور من عقد مقارنة بين ما هو عربي أصيل، وما هو غربي بحت، ثم صرح بذلك؛ لكي يلغي التوهم الذي قد يحصل من هذا الأمر.
 إن أساليب التأليف لدى النقاد القدامى في بيئتهم المعرفية شيء، والتصورات والمفاهيم الخاصة بالمنهجية الحديثة شيء آخر؛ نعم إن المناهج الحديثة تصلح لدراسة النصوص التراثية بشكل كبير، فإن مقارنة الفكر الحديث الذي أفاد من تراكم المعرفة ومن منجزات العلوم الحديثة، بفكر قديم بكر، يخطو خطواته الأولى نحو المنهج والاستدلال، فضلاً عن اختلاف البيئتين العربية والغربية أمر بغاية التعقيد، ولاسيما إذا علمنا أن منشأ تلك المناهج غربي أولاً وأخيراً، وان العرب بثوا نظرياتهم بشكل عفوي، وان تلك النظريات تحمل بين سطورها ما هو أكبر من حقيقتها الظاهرة، بل لعل من الإنصاف القول إن المناهج الحديثة التي يطمح بعضهم عقد صلة بينها وبين تراثه الغزير، قد ظهرت واكتملت وأُقبرت، في حين ظل التراث العربي معيناً لا ينضب، ومصدراً تتراءى خلف كنوزه كنوزاً أخرى، تتجدد حياتها في كل عصر.
إن محمد المبارك المدرك إدراكاً تاماً المنطق الإقليمي والفكري الذي جاءت منه نظرية القراءة والتلقي، يؤكد تعددية القراءة للنص الشعري عند القراء الأسلاف، وإن اختلاف القراءة كان سبباً في توجيه النص، بل إن الإرثَ اللغوي كما يرى، استوعب آفاقاً فسيحة من الآراء حول دلالة الحروف وأثرها في المعنى، ومن ثَمّ المغزى الجمالي العام؛ وهو يندفع في هذه الآراء وينفعل، فيقرر ان نظرية التلقي محض ابتكار العرب، فمشكلة التلقي على حدّ قوله: توجد حيثما يوجد الأدب، ولعل العربي أثبت حُسْنَ تلقيه حينما سمع القرآن.. وقد وجد المبارك مثلاً، وهو يستقرئ النقد العربي، أن الجاحظ ومن عاصره، وجاء بعده، قد عُني بالشروط والقواعد التي يجب أن يتضمنها النص الأدبي، وإن عبد القاهر، كان يرى في التلقي اجتهاداً، إذ لا قراءة واحدة للنص مادام القارئ ممعناً فيه، في حين أن حازم القرطاجني قد وضع قواعد مهمة للصناعة النظمية في كتاب المنهاج، دليلاً على الاعتناء بكيفية تكوين الخطاب، وبناء العلاقة مع المتلقي.
ويؤيد هذا الاستنتاج غير واحد من النقاد المحدثين، فروز غريب مثلاً، التي تتحيز للنقد الجمالي، تجد أن عبد القاهر رائد النقد الجديد؛ كونه استبق النظريات الغربية بموضوع (الابتكار، والجدة، والمعنى)، قالت: (ينفرد عبد القاهر الجرجاني بنظرية استبق بها نظريات النقاد الحديثين، هي نظرية الجمع بين الأضداد، والتقريب بين المعاني المتباعدة… بهذا المعنى يقول (آزرا باوند): إنَّ الصورة الشعرية التي تشمل وجوه البيان بما فيها التشبيه، ليست مجرد نقل، أو رسم لوحة تصويرية، لكنها ترتكز على الجمع بين أفكار وانفعالات متباعدة، وهذا الجمع يحدث في القارئ تأثيراً فورياً يشبه الصدمة الشعورية).
 ومن نفس المبدأ، عقد طراد الكبيسي حديثاً عن القراءة والتلقي عند القدامى، فهو يوجه على سبيل المثال بعض كلام الجاحظ في اللفظ والمعنى وجهة توافق نظرية القراءة والتلقي، كما إنه يوضح معنى التخليط في اشتباه المعاني، كما يرد عند الجرجاني باختلاف القراءة واستباق المعنى إلى الدلالة. ثم إنه يجد في عبارة (ملائمة للنفوس) التي ترد كثيراً عند القرطاجني لا تخص الشاعر وحده؛ لأنها تخص المتلقي أيضاً من حيث ملاءمة الشعر للمرسل إليه تأثيراً وإقناعاً.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=157280
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 06 / 24
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15