• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : رؤية الله والتطرُّف الفكري! .
                          • الكاتب : د . احسان الغريفي .

رؤية الله والتطرُّف الفكري!

 مناقشة الأدلة القرآنية لمثبتي الرؤية:
   ذكرنا في العدد السابق أهمّ ما يستدلّ به المثبتون لرؤية الله تعالى مِن القرآن الكريم وهو قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ  إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)  [القيامة/22، 23]، فزعموا أنَّ المراد من (نَاظِرَةٌ) هو النظر بالعين إلى ذات الله تعالى، وذكرنا أن هذا الاستدلال يبطل بطريقتين؛ الأولى أقوال بعض الصحابة وبعض أئمة التفسير مِن علماء السنة الذين فسَّروا لفظ (نَاظِرَةٌ) في الآية الكريمة  بمعنى منتظرة أمر ربها، أو منتظرة الثَّوَابَ مِنْ رَبِّهَا، الثانية: ذكرنا آيات عديدة في القرآن الكريم ورد فيها اسْتِعْمَال النَّظَر بِمَعْنَى الِانْتِظَار.
وما سنذكره في هذا العدد شبهة واشتباه الشيخ محمد بن أحمد بن محمد الغرناطي الكلبي المتوفَّى سنة 741هـ، والرد عليها، فقد قال: 
وجوه يومئذ ناضرة بالضاد أي ناعمة ومنه نضرة النعيم، إلى ربِّها ناظرة هذا من النظر بالعين، وهو نصّ في نظر المؤمنين إلى الله تعالى في الآخرة، وهو مذهب أهل السنة، وأنكره المعتزلة وتأوّلوا (ناظرة) بأن معناها منتظرة، وهذا باطل؛ لأن نظر بمعنى انتظر يتعدى بغير حرف جر، تقول: نظرتك أي انتظرتك، وأما المتعدي بـإلى فهو مِن نظر العين، ومنه قوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ(1).
وللرد على ما أورده الغرناطي يُقال: إنَّ هذا الاشتباه يبطل مِن عشرة وجوه: 
الوجه الأول: لا يشترط في الفعل نَظَرَ التعدي بـإلى إذا كان بمعنى النظر بالعين، بل يأتي الفعل نَظَرَ متعدياً بنفسه، والدليل على ذلك قوله تعالى: إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا[النبأ: 40]، فما: اسم موصول مفعول به لينظر، قال أحمد بن محمد الخراط أستاذ النحو في جامعة الإمام محمد بن سعود في المدينة المنورة:"ما": اسم موصول مفعول به، و"نظر" قد يتعدى بنفسه(2).
  وجاء في تفسير هذه الآية: يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ أي: يُشاهِد ما قدَّمه مِن خير وشر. و"ما" موصولة، والعائد محذوف، أو استفهامية، أي: ينظر الذي قدمته يداه ، أو: أيُّ شيءٍ قدمت يداه؟(3). فالفعل نَظَرَ تعدَّى إلى المفعول بنفسه بدون اقترانه بحرف الجرإلى، ومعناه النظر بالعين.
وكذلك ورد الفعل انْظُرُوا غير مُعدَّى بحرف الجر إلى ومعناه النظر بالعين وذلك في قوله تعالى: 
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ[الحديد: 13]. فالفعل انظُرُونَا يحتمل وجهين الأول: انتظرونا، والثاني: أنظروا إلينا؛ قال القرطبي: فالمراد من قوله: انظُرُونَا انظروا إلينا؛ لأنهم إذا نظروا إليهم، فقد أقبلوا عليهم، ومتى أقبلوا عليهم وكانت أنوارهم من قدامهم استضاؤوا بتلك الأنوار، وإن كانت هذه الحالة إنما تقع عند مسير المؤمنين إلى الجنة، كان المراد من قوله: انظُرُونَا يحتمل أن يكون هو الانتظار وأن يكون النظر إليهم(4).  
وقال ابن عجيبة: انظُرُونَا أي: انتظرونا... وقيل: من النظر، أي: التفتوا إلينا وأَبْصِرونا(5).
وبهذا يبطل ما قالوه: بأن الفعل نظر بمعنى النظر بالعين لا يأتي إلَّا متعدِّياً بحرف الجر إلى.
الوجه الثاني: أن نظر المتعدية بحرف الجر إلى  لا يشترط في معناه الدلالة على الرؤية بالعين؛ لأنَّها تأتي بمعانٍ عديدة، منها أنها تأتي بمعنى أهلك، كقول الشاعر لبيد: 
في قروم سادة مِن قومه * نَظَرَ الدهرُ إليهم فابتهل
[أي] فاجتهد في إهلاكهم(6).
قال أبو علي، وأمَّا قولهم (نَظَر الدهرُ إليهم) فمعناه أهلكهم، وأنشد: 
نَظَر الدهرُ إليهم فابْتَهَلْ. وقال: حكاه الخليل(7). 
فالفعل نظر هنا تعدَّى بحرف الجر إلى ومعناه أهلك، وحينئذ لا يلزم كون الفعل نَظَرَ مع حرف الجر (إلى) بمعنى نظر العين.
وورد الفعل ينظرون مُعدَّى بحرف الجر إلى ولا يراد به النظر بالعين، وذلك في قوله تعالى: أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية: 17 - 20]،» أي أينكرون البعث فلا ينظرون نظر اعتبار، فهذا حضّ على التأمل؛  قال الراغب: فذلك حث على تأمل حكمته في خلقها(8).
وورد الفعل يَنْظُر متعدِّياً بحرف الجر إلى بمعنى: يرَحمُ أو يعْطفُ كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ الله وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران: 77]؛ قال الدرويش في معنى قوله تعالى: وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ ولا يعطف عليهم بخير مقتًا مِن اللّه لهم، كقول القائل: أنْظُرْ إليَّ نَظَرَ اللهُ  إليك، بمعنى تَعَطَّفْ عليَّ تعطَّفَ اللهُ عليك بخير ورحمة(9).
وروى البخاري بسنده قول رَسُول الله: (ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ الله إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... فقد ورد لفظ (لاَ يَنْظُرُ) في هذا الحديث بمعنى لا يرحم؛ قال القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي المالكي: وقوله ثلاثة لا ينظر الله إليهم أي لا يرحمهم(10).
وقال إمام السنة النووي في شرح الحديث المتقدِّم: ومعنى لا ينظر إليهم أي يعرض عنهم، ونظره سبحانه وتعالى لعباده رحمته ولطفه بهم(11).
فهذه موارد استعمل فيه النظر معدَّى بحرف الجر إلى ولا يراد به رؤية العين، ومجيء النظر هنا معدَّى بـإلى - وهو ليس بمعنى الرؤية - مبطلٌ للحصر الَّذي زعمه الغرناطي وغيره  من كون النظر المتعدي بـإلى لا يأتي إلاَّ بمعنى نظر العين. 
المراجع:
(1)  التسهيل لعلوم التنزيل للغرناطي الكلبي:4/165[سورة القيامة/آية:23 ].
(2)  المجتبى من مشكل إعراب القرآن الكريم للخراط: 1 / 583،[سورة النازعات/آية رقم: 40].
(3)  البحر المديد في تفسير القرآن المجيد لابن عجيبة:8/223[سورة النبأ].
(4)  التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) للرازي: 29/196[سورة الحديد/الآية: 13].
(5)  البحر المديد في تفسير القرآن المجيد لابن عجيبة:7/316[سورة الحديد].
(6)  أساس البلاغة للزمخشري :34 [ب هـ ل].
(7)  المخصص لابن سيده: 1/108[باب التشعث].
(8)  معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم:553[نظر].
(9)  إعراب القرآن وبيانه لمحي الدين درويش: 1 / 543[سورة آل عمران/ الآيات 76 - 77].
(10)  مشارق الأنوار على صحاح الآثار:2/12[حرف النون/ فصل الاختلاف والوهم].
(11)  شرح صحيح مسلم للنووي:2/475[كتاب الإيمان/ باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار].




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=157167
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 06 / 22
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 04 / 30