إذا أراد الإنسان أن يتكلم وأن يوصل أفكاره إلى الغير فتوجد عنده ثلاث لغات قادر على بعث رسائله وافكاره ومشاعره وما تكتنف نفسه ويدور في خلجاته ، وما يجول في خاطره ، من خلال هذه اللغات الثلاث ، وكل إنسان على وجه هذه البسيطة قادر على التكلم بتلك اللغات .
وهذه اللغات الثلاث ، اثنتان منها عامتان يستطيع الغير أن يفهما ويتفق عليها جميع العقلاء في العالم ، وواحدة من تلك الثلاث مختصة لا يفهمها إلا من تكلم بلسان تلك اللغة .
أما ما هي هذه اللغات ؟
الجواب : نبتدأ باللغتين العامتين
اللغة الأولى : وهي لغة الفطرة
فما من إنسان على وجه هذه المعمورة ، إلا وفي داخل نفسه أمور فطرية جبل عليها ، وعُجنت مع طينته وخلقته ، منها حبه للخير حبه للعلم حبه الفضيلة حبه الكمال ، حبه للتعاون حبه للإجتماع ، يدرك في داخل نفسه معنى الخير ومعنى الشر ، معنى الحسن والقبح ، معنى الظلم والعدل ، يدرك بذاته كل المعاني الأخلاقية ، وتسعى روحه إلى السمو والتكامل والارتفاع ، بل في فطرته كل معاني معرفة الله وتوحيده ومعرفة النبوة والمعاد والإمامة ، والله سبحانه وتعالى يقول : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم : 30]
ولكن هذه الفطرة تلوثها العادات والتقاليد والتربية الخاطئة والبيئة الفاسدة ، فتبتعد عن الهدف والمقصود الذي خُلقت من أجله ، وعندما تزاح عنها هذه الحجب ترجع لطبيعتها ، قال تعالى : {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام : 79]
لذلك كان أ نبياء الله يتكلمون مع الناس بهذه الفطرة {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود : 51]
فطلب منهم أن يعملوا عقولهم للرجوع إلى الفطرة الأصلية .
ولكن عندما يتلوث المجتمع باصنام متعددة من طغاة وفراعنه وعبادة الأهواء ، يكون دور المصلح بارجاع الناس إلى لغة الفطرة ومن هو أحق بالعبادة من كل هؤلاء {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس : 22]
بل في الحقيقة عندما تظهر معجزة النبي ويعرف حقيقتها أهل الإختصاص فيذعنوا لها فبعد ذلك لا يهمهم ما يؤول إليه أمرهم مع من إنكر وجود الله وخالف الفطرة السليمة ، ونرى ذلك واضحاً في موقف سحرة
فرعون ، وقرار فرعون بتصفيتهم جسدياً وبصورة بشعة ، فلم يكترثوا لهذا القرار وصمموا على الشهادة والرجوع إلى الله حيث قالوا : {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه : 72]
إذا هذه اللغة الأولى ، وهي لغة كنائية .
اللغة الثانية : وهي لغة الجسد
وهذه اللغة قد أخذت حيزاً واسعاً في العلوم الإنسانية والإجتماعية ، فقد أهتم بها علماء النفس من جانب ، وعلماء الإجتماع من جانب ، وعلم التنمية البشرية من جانب ، بل كان لها العمق الريادي في عالم السينما والمسرح ، فانصب عليها التدريس والتعليم والمحاكاة والمماثلة ، لما تلعب هذه اللغة من نقل حقيقة مشاعر الإنسان إلى الطرف المقابل ، بل وربما تكون لغة الجسد غطاء لإخفاء المشاعر الحقيقية لذات الشخص ، وقد تكلم عنها القرآن كثيراً ، ولناخذ بعض الصور من تلك اللغة .
الصورة الأولى : لغة اليد
فتارة تعبر عن مواقف طفولية تصدر من رجال كبار يحسبون غلق اذانهم باصابعهم كمثل الطفل عندما يخاف من صوت عال يسد أذنيه ، يقول تعالى :{أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ۚ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة : 19]
وهذا وصف للمنافقين ، وهو المبالغة من شدة الخوف يكاد يضع كل أصابعه في أذنه ، في حين الحقيقة إن الإنسان إذا أراد أن يسد أذنيه يضع سبابته فقط .
وتارة يعبر فيها عن وصول إلى مرحله من الكره ، فلا يكاد يحب أن يسمع كلام الطرف المقابل ، ونفس الصورة يضعون أصابعهم في اذانهم قال تعالى : {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح : 7]
وهذا ما حكاه الله عن قوم نوح ، بل لشدة كرههم الحق والحقيقة حتى رؤية نبي الله نوح لا يطيقونها ، فيضعون ثيابهم على وجوههم .
الصورة الثانية : لغة الوجه
حيث يذكر الله بعض ملامح الوجه التي تعبر عن حقيقة باطن المنافقين {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد : 30]
أو ملامح اسوداد الوجه كقوله تعالى : {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل : 58]
وهذه تعبير عن الحالة النفسية وكراهية البنت لمن كان في كنف التقاليد الجاهلية المقيتة .
أو حال وجه المشرك والكافر قال تعالى : {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۖ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس : 27]
وغيرذلك من الصور المنتشرة في القرآن ها هنا وها هنا ، وتتبع ذلك يطيل بنا المقال .
اللغة الثالثة : لغة اللسان
وهذه هي اللغة الخاصة التي لا يعرفها الا من تكلم بتلك اللغة ، وقد شاءت حكمة الله أن لا يبعث نبياً إلا بلسان قومه {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [ابراهيم : 4]
وهذا اللسان بنفس الوقت هو يحمل القسم الثالث من أقسام اللغات ، ويتضمن كذلك القسم الثاني من لغة الجسد ، فحركة اللسان بدون نطق وإخراج مخارج الحروف يُعتبر من لغة الجسد ، لذلك هو فعلاً آية من آيات الله
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} [الروم : 22]
|