إن الأصالة التي تتمتع بها حضارة بلاد الرافدين هي من المميزات الخاصة التي تنطبع بها هذه الحضارة، وهذه الخصوصية الأصيلة المتميزة، هي التي بوّأتها لأن تحتل الصدارة الأولى ضمن الحضارات الأصيلة المعروفة في العالم (ومن الدليل على قدم حضارة بلاد الرافدين، ان الوثائق المعروفة باسم الواح (تل العمارنة)، مكتوبة بالخط المسماري وباللغة البابلية، على ان اللغة البابلية صارت في ذلك العصر لغة الدبلوماسية الدولية.
أما الخاصية الأساسية التي تميزت بها حضارة بلاد الرافدين على الحضارات الأصيلة الأخرى والتي رفعتها إلى مستوى أرقى من هذه الحضارات، هي ابتداعها الكتابة وسيلة للتدوين، وقد عدّ المؤرخون هذا الاختراع مثلا لثورة معرفية كبيرة، انتقل بموجبها الإنسان العراقي القديم إلى العصور التاريخية التي لم يسبقه اليها أي إنسان آخر في العالم القديم، فكانت الكتابة أشبه بالقارب الذي انتقلت بواسطته جميع تلك العلوم والمعارف إلى الأجيال التالية، والى أماكن أخرى غير بلاد سومر وأكد.
وقد اطلق المؤرخون على هذه الكتابة، اسم الكتابة المسمارية، وقد ظهرت في حدود (3500 ق.م) عندما جاءت على شكل علامات صورية تطورت إلى علامات رمزية في طورها الثاني، ثم إلى علامات مقطعية أو صوتية في الطور الثالث والاخير من تطور هذه الكتابة عبر العصور التاريخية في بلاد الرافدين. فالكتابة إذن، هي الترجمة الأولى لفكر الإنسان بما يحتويه من معارف وخبر عملية مهنية كانت أم تطبيقية.
إن المرحلة التي كانت فيها الكلمات لا تزال بصورة رئيسة من النوع الذي استنتجناه، والتي تضع معاني الجهد الانساني إلى أقصى حد، لابد أن تكون مرحلة استمرت مئة أو مئات الآلاف، وتركت آثارها التي لا يمكن ان تخطى خلال العصور الطويلة.
ولقد كان الفينيقيون والكنعانيون والاناضوليون والحثيون من الأمم القديمة الذين احتكوا باليونانيين الاغارقة، واثروا وتأثروا بهم، كما كان لهم نفس هذا الدور مع سكان بلاد الرافدين الذين اخذوا عنهم جملة من الخصائص الحضارية من أهمها هي الكتابة المسمارية... معنى ذلك أن اليونانيين يدينون للشرق وبلاد الرافدين خصوصا في معرفة الكتابة، فالحروف الأبجدية دخلت بلاد اليونان في حدود القرن الثامن ق.م عن طريق الفينيقيين الذين كانوا المخترعين الأوائل للكتابة الابجدية، وهذا ما حفز الاغريق لكتابة التاريخ.
إن الدليل الذي يشير بأن الكتابة المسمارية على الطين قد استعملت في منطقة البحر المتوسط في جبيل والالاخ مثلا، وان التجار الاشوريين استعملوا صيغة مبسطة للخط المسماري، واستخدموا 68 علامة تقريبا، وأكثرها ذات قيم مقطعية بسيطة والكتابة من اليسار إلى اليمين على ألواح طينية وعادة مع قواعد فصل الخطوط، وان الخط (A) بصورة مشابهة كان يكتب على ألواح طين من اليسار إلى اليمين مع قواعد الخط، واستخدام 100 علامة تقريباً، وأكثرها له قيمة مقطعية بسيطة، وكما هو الحال في العراق.
أما في سوريا والاناضول، فان الألواح الطينية و(بالخط A والخط B) قد تم تجفيفها بالشمس، وان طرائق الكتابة هذه يمكن أن تكون قد انتشرت من العراق إلى كريت والى الاغارقة المايسينيين، وان مناقشة هذا التأثير تقع بصورة كبيرة على معرفتنا بأن الختم والكتابة بدأت في بلاد الرافدين اقدم من منطقة (ايجه) مثلما هي المدن والقصور التي تطلبت الأختام والكتابة.
إن النقوش الأثرية الأكدية التي تعود إلى حدود القرن الثامن عشر ق م والتي تم العثور عليها في جزيرة (كيثيرا) وهي جزيرة كريت، وان ذكر ((kap – ta- ra) (Kaphtor في الوثائق المعاصرة تؤكد العلاقات المتبادلة بين جزيرة كريت وبلاد الرافدين عن طريق مدن ساحل شمال سوريا. وقد أظهر اليونانيون براعة فائقة في تحوير الكتابة بصورة تلائم خصائص لغتهم، وان عدداً كبيراً بصورة بارزة من الكلمات المستعملة لاحقا في الاغريقية الابجدية للاوزان والمقاييس والسلع التجارية، هي كلمات عربية، ورغم أنها ليست جميعا بالضرورة أكدية، إذ أن بعضها لا يمكن تمييزه عن الكنعانية أو الفينيقية، فأنها توضح أن الاغريق المبكرين قد التقوا وتأثروا بالمجتمعات التجارية الموجودة منذ فترة طويلة في الشرق.
إذن، فالعالم الاغريقي والعالم العربي شكل دائرة مشتركة، حيث نعتقد بأن هذا التشابه الاساسي والتطور المتشابه لحياة الدولة للعاربة الغربيين والاغريق، سببها الأحوال الجغرافية والسياسية المتشابهة.
نلمس التأثير اللغوي الرافديني على نظيره اليوناني من خلال بعض المفردات اللغوية التي نجدها في اللغة اليونانية، ولابد أن تكون هناك علاقة بين الحرف (ina) أو (ana) الاكدية والحرف en اليوناني أو in اللاتيني ومعناه (في)، وللحرف انا (ana) بالاكدية معنى متشابه مع الحرف انا في اللاتينية، كذلك نلمس هذا التشابه بين الكلمة الاكدية (Magae) والكلمة ميكال – وس اليونانية.
تشير العديد من النصوص الأدبية التي تم العثور عليها في بلاد اليونان (في منطقة كنوسوس) في فترة حكم الامبراطور الروماني نيرون (54-68 م)، أن دانيوس الذي هو من أصل فينيقي أدخل الخط والكتابة الى بلاد اليونان، حيث يتوفر اقتناع بأن بعض اللغات التي تعود الى الأقوام العاربة الشمالية الغربية، قد عرفت طريقها إلى الحروف واللغة اليونانية واستعملت بين
(600-300 ق.م)، على أن أهم شي كان له أعمق الأثر في الحضارة اليونانية وتطورها الفكري السريع هو اقتباس الحروف الابجدية، وان الكتابة الفينيقية قد استمدت عناصرها من الخطين المصري والبابلي. وفي الفترة الهلنستية تم العثور على مجموعة غير اعتيادية من الألواح قد تم تجميعها مؤخراً من مجموعة مبعثرة بين المجموعات في عدة متاحف، وكل لوح يضم كتابة مسمارية بابلية على أحد وجهيه بخط أبجدي اغريقي. أما الوجه الآخر فانه يضم الشبه الفينيقي له، وان جميع النصوص تبدو انها تنتمي إلى المنهج الاكديمي المسماري؛ لأنها تضم قوائم معجمية ومناهج دراسية وقطع أدبية، وانها لا تضم سجلات وعقود يومية، ورغم انها غير مؤرخة يعتقد انتهاءها إلى الفترة السلوقية أو حتى الفارثية، ويمكن أن توضح ان الاغريق يحاولون تعلم نصوص كلدية كتابة.
|