حين تستخلص وجهات النظر من الواقع، وعبر تجارب انسانية وبدون تأثيرات ايدلوجية فكرية تقسر الواقع او تنتقي منه ما يروم عقيدتها، وتترك الباقي، ستصبح وجهات النظر واقعية يمكن ان نستشف من خلالها عمق الحقيقة حلوها مرها ووجهة نظر الكاتب المبدع (خليل سعيد الشويلي) تتلخص بامكانية اقتحام القادة العسكريين للعبة السياسة والنجاح فيها.. ولكن من غير الممكن ان يزج الساسة انفسهم في عملية قيادة الجيوش دون ان يفشلوا فشلا ذريعا.
فنحن نرى في الشق الاول ان الحكم سيكون عسكريا وفي جميع الاحوال لا يمكن لعسكري احتواء هذا النهج الدبلوماسي الذي لا تجيده السياسات العسكرية، ولا يعني شيئا اذا ما اقترنت بعض الاسماء عالميا بنجاح تجربة او تجربتين، علما ان مكونات الجيش في العراق له اختلافات فكرية جذرية كالحزم والقوة والبطش. وفي الشق الثاني سنرى انها شملت جميع اساليب استلام السلطة من السياسيين غير المؤهلين علميا وعمليا لقيادة الجيوش، لأن العمل العسكري عو علم قائم بذاته تصقله التجربة الميدانية، فالسياسي سيحتاج الى مستشارين عسكرين يصبح مقيدا تماما لاجراءاتهم وتابعا لهم وخير دليل على ذلك الاحتلال الصدامي للكويت، والانسحاب غير المدروس والذي ترك الخيار مفتوحا لقوات التحالف بالقضاء على البنية التحتية داخل الحدود العراقية.. تلك اشياء معروفة لاتحتاج الى خبرة كبيرة لادراكها ولكن الذي جذبنا في وجهة نظر (الشويلي) هي السردية التوثيقية لمجريات عمل الانتفاضة الشعبانية، فهو يرى ان بوادر الانتفاضة كانت تلوح في الافق مع قبول الطاغية على ايقاف اطلاق النار. فثارت مدينة البصرة معلنة بداية الانتفاضة في العراق وثارت معها اغلب المحافظات الجنوبية حيث سُحبت قوات الحرس الحمهوري لحماية الحكومة.
أكد الاستاذ (الشويلي) على عدة مسائل مهمة منها ان الانتفاضة كانت فرصة سانحة لجميع العراقيين بالتخلص من العتمة التي حجبت نور الحرية ويعني لنا ان الانتفاضة كانت عراقية شاملة لاتخص مذهبا محددا او دينا محددا بينما في حقيقة الامر هناك مسائل دقيقة تفسر الموضوع لا اكثر مثلا نجد ان تحرك الطاغية واعوانه طوال مدة حكمهم تحت محددات فكرية ضيقة منها قومية ظلمت باقي القوميات ومنها طائفية ظلمت باقي الطوائف رغم علمانية الحكم الظاهري فظلم بقية المذاهب وتمسك بالظلم والجور فظلم الكثير من دون هذين التحديدين وبهذا صار الثقل المعارض للشيعة والاكراد ولشرفاء الامة.
والمسألة الاخرى حيث حاول الاعلام العربي اعطاء صورة الرضوخ الشعبي للطاغية تحت مسميات القبول والرضا وهذه الانتفاضة اعطت الدليل الواضح على الرفض الشعبي العراقي.. واستطاعت الانتفاضة ايضا استنهاض قيم الشجاعة كهوية انتماء روحي للشعب بعدما اعتقد الطاغية وادواته ان ثلاثة وعشرين عاما من التشويه قادرة على محو هوية وإرادة الشعب الحر. فكسرت الانتفاضة حاجز الخوف والتردد..
وكشفت عن نضج فكري عراقي اصيل يرى الاستاذ (الشويلي): ان النضج الشعبي لم يقدم له على طبق من ذهب بل جاءه عبر سيل من الدماء والسجون والمعتقلات والتضحيات الجسام وهذه التضحيات هي التي اضعفت من امكانية التعايش مع النظام. ولهذا امتدت الانتفاضة من اقصى الجنوب الى اقصى الشمال. واهم مسألة نود التركيز عليها هي عراقية الانتفاضة والتي حاول النظام المنهار التعتيم على هويتها بدعايات منحرفة سقط زيفها امام واقعية هذه الانتفاضة يتناول الاستاذ (الشويلي) في سرديته المعارك الضارية التي دارت رحاها في كربلاء والنجف المقدستين وما تعرضتا له من خراب وتدمير. فقد استخدم النظام المنهار قنابل النابالم الحارقة على كربلاء واطلقت من كتائب وبطاريات مدفعية الحرس الجمهوري وطلائع الحزب الحاكم.
يستفحل سؤال مهم هل كان بامكان الانتفاضة اسقاط النظام في بغداد؟ وما هي الاسباب التي منعت ذلك؟ والجواب: نعم كان بالامكان ولكن الذي منع هو وجود حزب متمرس على السلطة امتدت اصابعه الى داخل المجتمع مضافا اليه عناصر المخابرات والامن العام والامن الخاص والحمايات الخاصة التي كانت تتمثل بألوية (الحرس الجمهوري الخاص) وتكمن حيوية هذه القوات انها لم تدخل الحرب بشكل فعلي فهي لم تتضرر منها وامتلكت زمام الامن الداخلي ولا تتردد في اتخاذ تدابير أمنية شديدة القمع لاخماد أي صوت معارض نشأ في هذه الظروف الحساسة.. ويعني ان صدام اعد محارق الحروب للشعب واستثنى منها رجالاته واقاربه وابناء عشيرته. ثانيا: اعتماد صدام على مجرمين جل خبرتهم قساوة المعتقلات والتعذيب وتدربوا على نزع انسانيتهم فيها. ثالثا: ربط مصير تلك الكيانات المخابراتية بمصير النظام فهم شركاء بالدم العراقي المهدور. والسبب الثاني الذي حدده الاستاذ (الشويلي) هو عدم تنسيق المنتفضين مع دول التحالف والمملكة العربية السعودية، ونعتقد ان هذه النقطة واضحة المعالم وقد توضحت الان اكثر من قبل، فالجميع صار يدرك بمجريات (خيمة صفوان) وقراراتها النهائية التي منعت استخدام النظام للاسلحة العراقية داخل العراق، لكن صدام استخدم الممنوع منه دوليا وامام مرأى ومسمع الجميع. وتكمن القضية في عدم اطمئنان تلك الانظمة لحكومة شعبية وطنية بما تقدمه لمصالح ضمنت امريكا تحقيقها في العراق من خلال انتصارها العسكري. ثم لماذا يتجاهل الاعلام الرؤى الطائفية التي منعت النصرة عن الشعب العراقي من قبل تلك الانظمة ومحاولة الضغط على قوات التحالف؟ فالنظام البعثي بعد انكساره المهين اصبح هو الاقرب لها مع وجود ضمانات خيمة صفوان.
وتطرق الاستاذ (الشويلي) في سرديته لسيل المساعدات التي قدمت للشعب العراقي فهي اولا لا ترتقي الى حجم المأساة. وثانيا: اغلبها ذهبت الى اتباع النظام واتلف البعض منها لكي لا تصل الى المتضررين الحقيقيين. ويعزو هذه الاسباب الى فشل القيادة العسكرية فهي لم تستخدم مبدأ سعة النظر وتحوطات الأمان وعدم الأخذ بنظر الاعتبار للمستجدات التي ستعزز من جراء الانسحاب وبقيت منشغلة بالقرارات الشخصية والنزوات الخاصة والبحث عن المجد التاريخي الخاوي.
|