ترد كثيرا من الإشكالات بأنه: كيف يكون النبي (صلى الله عليه وآله) أبا للحسن والحسين (عليهما السلام) والآية الكريمة: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما (1) تنفي كونه أبا لأحد من رجالات المسلمين فبهذه الآية يخرج كونه (صلى الله عليه وآله) أباً للحسنين (عليهما السلام).
ولأجل بيان ذلك لابد من بيان معنى الأب لغة ليتضح لنا المطلب بعد ذلك.
الأب لغة:
عرفه في لسان العرب بأنه " الأب الوالد، والجمع أبون وآباء وأبو وأبوة"(2)
وعرف أيضاً: " والأب: الوالد، والأبوان: الأب والأم، أو الأب والجد، أو الأب والعم، أو الأب والمعلم، أو الجد والجدة، ولا يرد الأب بمعنى المربي أو العم إلا بقرينةٍ(3).
وعرف في المجمع الوسيط بأنه "الوالد. والجَدُّ، ويطلق على العَمِّ، وعلى صَاحب الشيء، وعلى من كان سببًا في إيجادُّ شيء أَو ظهوره أو إِصلاحه. والجمع: آباء، وأَبُوٌّ، وأُبُوّةً، وفي التنزيل العزيز: ودليل ذلك قوله تعالى {واتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي}"(4)، الظاهر أنّ لفظ الأب حقيقة في الوالد، ولعلّه غير مختصّ بالأب المباشر بل يشمل الجدّ للأب وإن علا، قال تعالى- حكاية عن يوسف عليه السلام-، «وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ»(5)، وكان إسحاق جدّه وإبراهيم جدّ أبيه(6)، إلّا أنّ تسمية الجدّ أباً بمعنى التفرّع منه، بخلاف العمّ والخال؛ فإنّهما إنّما سمّيا أباً للازم آخر من لوازمه، وهي التربية و القيام بمصالح المرء(7).
الاب اصطلاحاً:
وأما الأب في الاصطلاح فقد وورد الأَب في القرآن على أَربعة أَوجه:
الأَوّل: بمعنى الجَدّ: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} أي جدّكم.
الثاني: بمعنى العَمّ: {وإلاه آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ [وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلاها وَاحِداً} وإِسماعيل لم يكن من آبائه وإِنما كان عمه]. والعرب تطلق على العمّ الأَب، وعلى الخالة الأُمّ: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} يعنى أَباه، وخالته.
الثالث: بمعنى الوالد: {ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ}، {ياأبت لِمَ تَعْبُدُ}.
الرابع: الأَبُّ مشدّدة بمعنى المَرْعَى {وَفَاكِهَةً وَأَبّاً}(8).
وعرفه المناوي: "كل من كان سببًا لإيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره"(9).
واما الجرجاني فعرفه بأنه: "حيوان يتولد من نطفته شخص آخر من نوعه"(10).
فبناءً على ما جاء في المعنى اللغوي والاصطلاحي للأب خصوصاً عند علماء العامة نقول:
إن النبي (صلى الله عليه وآله) أب للحسن والحسين (عليهما السلام) حقيقة من جهتين:
1. من جهة كونه جدا لهما.
2. من جهة كونه سبباً في وجودهما.
ومن ثم أن هذه الآية لا تكن شاملة لهما لما تذكره التفاسير من خروجهما عن محور الآية الكريمة لصغر سنهما حين نزول الآية الكريمة.
قول علماء السنة.
قول القرطبي:
قال قوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما.
لما تزوج زينب قال الناس: تزوج امرأة ابنه، فنزلت الآية، أي ليس هو بابنه حتى تحرم عليه حليلته، ولكنه أبو أمته في التبجيل والتعظيم، وأن نساءه عليهم حرام. فأذهب الله بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم، وأعلم أن محمدا لم يكن أبا أحد من الرجال المعاصرين له في الحقيقة. ولم يقصد بهذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له ولد، فقد ولد له ذكور. إبراهيم، والقاسم، والطيب، والمطهر، ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلا(11).
قول الطبري:
ذكر في تفسيرها: (القول في تأويل قوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما، يقول -تعالى ذكره -: ما كان أيها الناس محمد أبا زيد بن حارثة، ولا أبا أحد من رجالكم الذين لم يلده محمد؛ فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها، ولكنه رسول الله وخاتم النبيين، الذي ختم النبوة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة، وكان الله بكل شيء من أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علم لا يخفى عليه شيء.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) قال: نزلت في زيد، إنه لم يكن بابنه، ولعمري ولقد ولد له ذكور؛ إنه لأبو القاسم وإبراهيم والطيب والمطهر ولكن رسول الله وخاتم النبيين أي: آخرهم وكان الله بكل شيء عليما.
حدثني محمد بن عمارة قال: ثنا علي بن قادم قال: ثنا سفيان، عن نسير بن ذعلوق، عن علي بن الحسين في قوله ما كان محمد أبا أحد من رجالكم قال: نزلت في زيد بن حارثة، والنصب في رسول الله -صلى الله عليه ]وآله[ وسلم -بمعنى تكرير كان رسول الله -صلى الله عليه]وآله[وسلم -، والرفع بمعنى الاستئناف؛ ولكن هو رسول الله ، والقراءة النصب عندنا .
واختلفت القراء في قراءة قوله (وخاتم النبيين) فقرأ ذلك قراء الأمصار سوى الحسن وعاصم بكسر التاء من خاتم النبيين، بمعنى: أنه ختم النبيين.
ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله (ولكن نبيا ختم النبيين) فذلك دليل على صحة قراءة من قرأه بكسر التاء، بمعنى: أنه الذي ختم الأنبياء -صلى الله عليه] وآله[ وسلم-وعليهم، وقرأ ذلك فيما يذكر الحسن وعاصم ( خاتم النبيين ) بفتح التاء، بمعنى: أنه آخر النبيين ، كما قرأ ( مختوم خاتمه مسك ) بمعنى: آخره مسك من قرأ ذلك كذلك(12).
قول ابن كثير:
ذهب في تفسير الآية: (وقوله: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، نهى [تعالى] أن يقال بعد هذا "زيد بن محمد" أي: لم يكن أباه وإن كان قد تبناه، فإنه، صلوات الله عليه وسلامه، لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم; فإنه ولد له القاسم، والطيب، والطاهر، من خديجة فماتوا صغارا، وولد له إبراهيم من مارية القبطية، فمات أيضا رضيعا(13).
وفي تفسير أنزل الله عز وجل في قول الناس إن محمدا تزوج امرأة ابنه ما كان محمد أبا أحد من رجالكم يعني زيد بن حارثة، يقول: إن محمدا ليس بأب لزيد (ولكن) محمدا (رسول الله وخاتم النبين) يعني آخر النبيين لا نبي بعد محمد (صلى الله عليه ]وآله[ وسلم)، ولو أن لمحمد ولدا لكان نبيا رسولا، فمن ثم قال: وكان الله بكل شيء عليما، يقول: لو كان زيد بن محمد لكان نبيا، فلما نزلت ما كان محمد أبا أحد من رجالكم قال النبي صلى الله عليه]وآله[ وسلم لزيد: ' لست لك بأب '، فقال زيد: يا رسول الله، أنا زيد بن حارثة معروف نسبي(14).
وأما الحسن والحسين فكانا طفلين، ولم يكونا رجلين معاصرين له.
قول الرازي
أشار في التفسير الكبير إلى تفسير قول تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما.
لما بين الله ما في تزوج النبي عليه السلام بزينب من الفوائد بين أنه كان خاليا من وجوه المفاسد، وذلك لأن ما كان يتوهم من المفسدة كان منحصرا في التزوج بزوجة الابن فإنه غير جائز، فقال الله تعالى: إن زيدا لم يكن ابنا له لا بل أحد الرجال لم يكن ابن محمد، فإن قال قائل: النبي كان أبا أحد من الرجال لأن الرجل اسم الذكر من أولاد آدم قال تعالى: وإن كانوا إخوة رجالا ونساء (15)، والصبي داخل فيه.
فنقول: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن الرجل في الاستعمال يدخل في مفهومه الكبر والبلوغ ولم يكن للنبي عليه السلام ابن كبير يقال إنه رجل.
والثاني: هو أنه تعالى قال: ( من رجالكم ) ووقت الخطاب لم يكن له ولد ذكر، ثم إنه تعالى لما نفى كونه أبا عقبه بما يدل على ثبوت ما هو في حكم الأبوة من بعض الوجوه فقال: (ولكن رسول الله) فإن رسول الله كالأب للأمة في الشفقة من جانبه، وفي التعظيم من طرفهم بل أقوى; فإن النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، والأب ليس كذلك، ثم بين ما يفيد زيادة الشفقة من جانبه والتعظيم من جهتهم بقوله: ( وخاتم النبيين ) وذلك لأن النبي الذي يكون بعده نبي إن ترك شيئا من النصيحة والبيان يستدركه من يأتي بعده، وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدى لهم وأجدى، إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد(16).
أقوال علماء الشيعة
قول السيد الطبطبائي
قوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين الخ، لا شك في أن الآية مسوقة لدفع اعتراضهم على النبي (صلى الله عليه وآله) بأنه تزوج زوج ابنه ومحصل الدفع أنه ليس أبا زيد ولا أبا أحد من الرجال الموجودين في زمن الخطاب حتى يكون تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا بزوج ابنه فالخطاب في قوله: «من رجالكم» للناس الموجودين في زمن نزول الآية، والمراد بالرجال ما يقابل النساء والولدان ونفي الأبوة نفي تكويني لا تشريعي ولا تتضمن الجملة شيئا من التشريع.
والمعنى: ليس محمد (صلى الله عليه وآله) أبا أحد من هؤلاء الرجال الذين هم رجالكم حتى يكون تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا منه بزوج ابنه وزيد أحد هؤلاء الرجال فتزوجه بعد تطليقه ليس تزوجا بزوج الابن حقيقة وأما تبنيه زيدا فإنه لا يترتب عليه شيء من آثار الأبوة والبنوة وما جعل أدعياءكم أبناءكم.
وأما القاسم والطيب والطاهر وإبراهيم فإنهم أبناؤه حقيقة لكنهم ماتوا قبل أن يبلغوا فلم يكونوا رجالا حتى ينتقض الآية وكذا الحسن والحسين وهما ابنا رسول الله فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبض قبل أن يبلغا حد الرجال.
ومما تقدم ظهر أن الآية لا تقتضي نفي أبوته (صلى الله عليه وآله) للقاسم والطيب والطاهر وإبراهيم وكذا للحسنين لما عرفت أنها خاصة بالرجال الموجودين في زمن النزول على نعت الرجولية(17).
قول الشيخ مكارم الشيرازي
تقول أوّلا: ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم لا زيد ولا غيره، وإذا ما أطلقوا عليه يوماً انّه "ابن محمّد" فإنّما هو مجرّد عادة وعرف ليس إلاّ، وما إن جاء الإسلام حتّى اجتثّت جذوره، وليس هو رابطة طبيعيّة عائلية.
طبعاً كان للنبي (صلى الله عليه وآله) أولاد حقيقيون، وأسماؤهم "القاسم" و "الطيّب" و "الطاهر" و "إبراهيم"، إلاّ أنّهم -طبقاً لنقل المؤرخّين -جميعاً قد ودّعوا هذه الدنيا وارتحلوا عنها قبل البلوغ، ولذلك لم يطلق عليهم أنّهم "رجال".
والإمامان الحسن والحسين (عليه السلام) اللذان كانوا يسمّونهم أولاد النّبي رغم انّهما بلغا سنين متقدّمة في العمر، إلاّ أنّهما كانا لا يزالان صغيرين عند نزول هذه الآية.
بناءً على هذا فإنّ جملة: (ما كان محمّد أبا أحد من رجالكم) والتي وردت بصيغة الماضي، كانت صادقة في حقّ الجميع قطعاً.
وإذا ما رأينا في بعض تعبيرات النّبي (صلى الله عليه وآله) نفسه أنّه يقول: "أنا وعلي أبوا هذه الاُمّة" فمن المسلّم أنّ المراد لم يكن الاُبوّة النسبية، بل الاُبوّة الناشئة من التعليم والتربية والقيادة والإرشاد.
مع هذه الحال، فإنّ الزواج من مطلقّة زيد -والذي بيّن القرآن فلسفته بصراحة بأنّه إلغاء للسنن الخاطئة -لم يكن شيئاً يبعث على البحث والجدال بين هذا وذاك، أو أنّهم يريدون أن يتّخذوه وسيلة للوصول إلى نواياهم السيّئة.
ثمّ تضيف: بأنّ علاقة النّبي (صلى الله عليه وآله) معكم إنّما هي من جهة الرسالة والخاتمية فقط (ولكن رسول الله وخاتم النّبيين) وبهذا قطع صدر الآية الارتباط والعلاقة النسبية بشكل تامّ وقطعي، وأثبت ذيلها العلاقة المعنوية الناشئة من الرسالة والخاتمية، ومن هنا يتّضح ترابط صدر الآية وذيلها.
هذا إضافةً إلى أنّ الآية تشير إلى حقيقة هي: أنّ علاقته معكم في الوقت نفسه أشدّ وأسمى من علاقة والد بولده، لأنّ علاقته علاقة الرّسول بالاُمّة، ويعلم أنّ سوف لا يأتي رسول بعده، فكان يجب عليه أن يبيّن لهذه الاُمّة ويطرح لها كلّ ما تحتاجه إلى يوم القيامة في منتهى الدقّة وغاية الحرص عليها(19).
وبناءً على ما بينا من تفسير هذه الآية وفيما كانت دلالتها وهو كون المخاطب الحقيقي نفي أبوة النبي (صلى الله عليه وآله) عن زيد بن حارثة الذي كان ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومن ثم أشار المفسرون إلى أن النهي شامل لكل من كان حاضراً متصفة بصفة الرجولة، وهذا الأمر قد أتبعد تصوره في الحسنين (عليهما السلام) لكونها صغيران حين الخطاب هذا أولاً ولكون النبي (صلى الله عليه وآله) أباً لهما سواء على المعنى اللغوي لكون أبوته حقيقة له لأنه سبب لإجادهما عن طريق أمهما السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فبذلك يكون (صلى الله عليه وآله) أباً حقيقياً لهما (عليهما السلام) وعليه فإن ما استشكل به المشككون ليس وارداً أصل في بنوة وأبوة النبي (صلى الله عليه وآله) وولديه الحسنيين (عليهما السلام).
الفهرس
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الأحزاب، آية: 40.
(2) لسان العرب، ج14، ص7.
(3) انظر: المفردات، الأصفهاني، ص٥٧-٥٨، التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي، ص٣٥، الكليات، الكفوي، ص٢٥.
(4) المعجم الوسيط، ج1، ص4.
(5) سورة يوسف، الآية: ۳۸.
(6) الكلّيات، ص 26.
(7) نفس المصدر.
(8) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز، ج2، ص114.
(9) التوقيف على مهمات التعاريف، ص٣٥.
(10) التعريفات، ص٧.
(11) تفسير القرطبي ص: 178.
(12) تفسير الطبري، ج19، ص122.
(13) تفسير ابن كثير ج3، ص501.
(14) تفسير مقاتل بن سليمان، ج3، ص49.
(15) سورة النساء، الآية: 176.
(16) التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، ج25، ص171.
(17) تفسير الميزان، ج16، ص224-225.
(18) الامثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج13، ص276.
|