الدور المهم الذي كان ليعقوب (عليه السلام) في التمهيد للمرحلة الرابعة من مسار الهداية في المجتمع البشري كان يتمثل بإعداد المجتمع الخاص، وفي المرحلة الاولى من مراحل الاعداد كان يعقوب (عليه السلام) يقوم بدورين الاول الدور العام وهو دور الهداية والدعوة الى الله في المجتمع الانساني الذي يسعه ان يصل اليه ويدعوه الى الله، والدور الثاني هو دور اعداد المجتمع الخاص الذي كان يتمثل ببنيه وابنائهم.
كانت اقسى الظروف التي واجهها يعقوب (عليه السلام) تتمثل في اعداد المجتمع الخاص وكانت الصعوبة تكمن في ضعف ادراك ابنائه لطبيعة المرحلة التي يُعدون لها، مضافاً الى هيمنة النوازع الذاتية على تفكيرهم بالنحو الذي اندفعوا من واقع جهلهم وأنانيتهم لارتكاب جريمة لو تمت لكانت ضربة قاصمة في الحسابات المادية للمشروع العظيم المعد لهم، ولكن الله بالغ امره، اذ انهم قرروا قتل يوسف (عليه السلام) وهو الذي يمثل الركن الثاني في حركة الاعداد للمرحلة القادمة، ولكن جرت المشيئة الالهية ان يوقع في روعهم العدول عن قتله الى رميه في غيابة الجب وبحسب النصوص الروائية فانهم حاولوا قتله حتى عند رميه في الجب، ولكن ارادة الله كانت ماضية.
ان التتبع للآيات الواردة في سورة يوسف (عليه السلام) يكتشف ان هناك تركيز على جملة من الخصائص التي تمتع بها النبي يعقوب (عليه السلام) ومن بين الامور التي تم ابرازها قرآنياً:
1. وضوح الهدف
كان لدى يعقوب (عليه السلام) ـ بمقتضى نبوته وتكليفه لإدامة المهمة ـ وضوح تام فيما يريده الله تبارك لبني اسرائيل وقد شهد لذلك العديد من المقاطع في الآيات الكريمة والتي ابرزها تعبيره رؤيا يوسف (عليه السلام) والتي تشهد انه كان على اطلاع تام بالمستقبل الذي ينتظر ولده حيث حكى عنه القران الكريم قوله:
﴿وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾
فالآية الشريفة تحدثت عن ان يعقوب (عليه السلام) ومن خلال تعبيره للرؤيا بين عدة امور:
الاول: المعرفة التي كانت ليعقوب (عليه السلام) بتعبير الرؤى، والتي تكشف عن قدرة خاصة في الاحاطة بالترابط بين الفرد والايحاءات الغيبية، والتي تحتاج الى قدرة خاصة واحاطة معرفية بأسرار الكون.
الثاني: كشف يعقوب (عليه السلام) لولده انه شخص استثنائي، وليس كبقية بنيه حيث اختص من بين اخوته بإجتباء الله تعالى له، وهذا يكشف عن ان تعاطي يعقوب مع يوسف (عليهما السلام) والحنو الخاص والمحبة الفائقة التي كان يظهرها له لم يكن لأسباب عاطفية او شخصية، بل كان لما يقتضيه مقام يوسف (عليه السلام) الذي حباه الله اياه، كما يكشف عن ان الالم الذي اعتصر قلب يعقوب (عليه السلام) بعد ابعاد يوسف (عليه السلام) عنه لم يكن عاطفة بشرية محضة، بل كانت تعبيراً عن عمق الترابط الروحي بين الاولياء المخلَصين من العباد.
الثالث: بيان الخصال المستقبلية ليوسف (عليه السلام) والتي من شأنها ان تهيء لتحقيق الهدف الالهي في هذه المرحلة من مراحل الهداية للمجتمع البشري، وهي مسألة التفسير الدقيق لمجريات الأحداث التي سيمر بها المجتمع البشري والدقة في رسم المسار الذي ينبغي السير عليه للوصول الى افضل واكمل النتائج، وهي الصفة التي عبر عنها القران الكريم على لسان يعقوب (عليه السلام) بقوله: ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ وقد ظهر ذلك جلياً في الاحداث التي رافقت مسيرة يوسف (عليه السلام) منذ حادثة البئر وحتى توليه منصب عزيز مصر.
الرابع: وضوح النتائج والمقامات التي سيصل اليها يوسف (عليه السلام) لتحقيق ارادة الله تعالى على الارض، حيث بين يعقوب (عليه السلام) لولده ان الله تعالى باجتبائه اياه وتعليمه تأويل الاحاديث سوف يهيئ له الاسباب التي تكون اتماماً للنعمة عليه وعلى آل يعقوب (عليه السلام)، وهذه النعمة ليس موقعاً مادياً محضاً، بل هي اتمام للنعمة التي اتمها الله تعالى من قبل على ابراهيم واسحق (عليهما السلام) ولو وقفنا عند النعمة التي تمت عليهما وجدنا ان ابراهيم واسحق (عليهما السلام) بعد طول جهاد وصبر وتحمل وصراع مع الطواغيت كتب الله لهم ان يكون لهم الكعب الأعلى في الدعوة الى الله في المنطقة الممتدة بين بلاد الرافدين ومصر على الرغم من سيطرة قوى الكفر والضلال والشرك على تلك البلاد العريضة، وان الذي سيجري على يد يوسف (عليه السلام) هو عين ما جرى على يديهما مع الاختلاف في الظروف.
وبهذا يتضح بما لا يقبل الشك وضوح الرؤية لدى يعقوب (عليه السلام) في ما تختزنه الايام من احداث خطيرة ومهمة في حركة الدعوة الى الله.
|