تتعدد أساليب الإنبياء عليهم السلام في الدعوة الى الله تعالى المذكورة في القرآن الكريم بتعدد الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية لكل أمة من الامم، وفي حقيقة الأمر فان كل أسلوب من هذه الاساليب تعتبر منهجاً متكاملاً في الحياة من خلال دراسة تلك الظروف والخروج بمحصلة من النتائج المهمة والتي توضح لنا مبادئ قرانية ثابتة ومفاهيم يجب معرفتها عند ربط الايات القرانية بعضها مع البعض الاخر، ومن هده المفاهيم القرانية المهمة مفهوم الاعتزال.
وقبل ان نشرع ببيان هذا المفهوم بالتفصيل سنمر بنظرة سريعة لانواع الاعتزال في القران، ورد الاعتزال في القران الكريم بثلاث صور بحسب استقراءي البسيط لآيات القران الكريم وهي:
1- اعتزال النساء في المحيض في قوله تعالى : (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة/222).
2- اعتزال الاقوام المعاهدة مع المسلمين في قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) (النساء/90).
3- اعتزال الانبياء والاولياء لاقوامهم الكافرة وهو المفهوم القراني الذي اود الحديث عنه، فقد ورد ذكره في عدة ايات من القران الكريم وتوضح هذا المفهوم القراني من خلال ترتيب الاحداث في الايات والسياق القراني لها .
والاعتزال في اللغة: هو التنحي عن الشيء، والاعتزال عن الناس الابتعاد عنهم وتركهم
وقد يتبادر للاذهان هذا السؤال : هل يعقل ان يكون الاعتزال اسلوباً من اساليب الدعوة الى الله تعالى بالنظر الى ما للاعتزال من انهزامية وتقهقر بعكس ما تتطلبه الدعوة الى الله جل جلاله من الاقدام والصبر على تكذيب ومعاندة الكافرين ؟!!
والجواب ببساطة شديدة نعم، فان جميع الاديان والرسالات السماوية هي حركية ومعطاءة ولا مجال فيها للسلبية والانهزامية وكما اشرنا سابقا فان اساليب الدعوة الى الله عزوجل متعددة ومختلفة باختلاف اوضاع الامم فإتخذت صورا من النصح والارشاد والجدال والمناظرة والاستفهام الاستنكاري والترغيب والترهيب والتأييد الالهي بالمعاجز حتى ينتهي الامر باسلوب اعتزال الكفار، وهو لربما يكون في الغالب اخر اسلوب من اساليب الدعوة الى الله تعالى، واحيانا قد يتقدم او يتاخر اسلوب الاعتزال عن بقية الاساليب الاخرى، فعامل التوقيت هو الفيصل في نجاح هذا الاسلوب بحسب كل نبي وطبيعة قومه والظرف المرحلي الذي تمر به الامة ووعي الرعية وسياسات الطغاة تجاهها فهو -اي الاعتزال- حلقة من سلسلة حلقات مترابطة وممنهجة في الدعوة الى الله جل وعلا.
وبكلمة اخرى فان اسلوب الاعتزال لا يتصدر اساليب الدعوة بل قد يأتي بعد جملة من تلك الاساليب بعد ان يستيئس الرسل من صلاح اقوامهم.
وهنا تمر علينا التفاتة رائعة من خلال المصطلح القراني (الاستيئاس) الوارد في قوله تعالى (حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين) (يوسف/110)، ويقصد بالاستيئاس هنا ان الرسل قد بذلوا كل ما في وسعهم ولم يدخروا جهدا من طاقاتهم البشرية في تبليغ الرسالات ولا زالت اقوامهم بعيدة كل البعد عن جادة الصواب ومنحرفة عن الشرائع الالهية والنواميس الطبيعية، وهنا يعبر القران بـ (استيأس الرسل) اي استيأسوا من صلاح اقوامهم.
وهنا قد يتساءل البعض: هل يمكن اعتبار مرحلة استيئاس الرسل هي مرحلة يأس واستسلام؟ فنقول كلا، لا يجب على المؤمن العادي ان يستسلم لليأس بعد الاستيسئاس فكيف بالانبياء المعصومين عليهم السلام ، لان اليأس قد يدفع بالانسان الجاهل بالاعتراض على عدالة الله تعالى وحكمته في توزيع الابتلاءات على بني البشر، بعكس الاستيئاس الذي وضحنا معناه سابقاً من ان الرسل قد استيئسوا من صلاح العباد لا من رحمة رب العباد لانه (...... وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(يوسف/87)، وبعد ان يصل الرسل لمرحلة استيئاسهم من صلاح الامم بعد جملة من اساليب الدعوة والتبليغ واصرارهم على الكفر والمعاندة والاستكبار تتدرج هذه الاساليب لتصل في نهاية المطاف الى مرحلة الاعتزال او المقاطعة وهو ليس بالاسلوب السلبي كما يظنه البعض، بل هو اسلوب قوي للتعبير عن شدة غضب الانبياء
والرسل ورفضهم لعبادة الاصنام والشرك بالله تعالى واقامة الحجة عليهم ولافساح المجال لهم للايمان بالله تعالى وجميع ذلك من رحمة رب العباد بهم.
ولتقريب الفكرة يمكننا تشبيه مفهوم الاعتزال في الوقت الحاضر بالمقاطعة، ولا يخفى تأثيرها وتبعاتها كسياسة قطع العلاقات الخارجية مع دولة معينة او مقاطعة منتجاتها على تلك الدولة كما حصل في مقاطعة المنتجات الدنماركية اثر الاساءة لرسولنا الكريم محمد صلى الله عليه واله وسلم حيث أتت المقاطعة بنتائج مذهلة حيث سببت للدنمارك تخلخلاً اقتصادياً اضافة الى سقوط مكانتها في الاوساط العالمية المتشدقة _ولو ظاهرا_ بالحرية واحترام حرية الرأي والتعبير وحقوق الانسان.
وبالاضافة الى ما ذكر فان اعتزال الرسل للكفار يعتبر تعويضا الهيا للانبياء والرسل على جهودهم في الدعوة وتبليغ الرسالة فنرى دائما في ايات اعتزال الانبياء والصالحين للكافرين تعقبها ايات تبين كيفية اشتمال الرحمة الالهية لهؤلاء المرسلين والهبات الربانية العظيمة كمكافأة لهم، وباستعراض سريع لتلك الايات يتوضح جيداً هذا المفهوم فقد ورد في سورة مريم عن لسان نبي الله ابراهيم عليه السلام (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَىٰ أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)) (مريم/48_49) وما اجمله من تعويض الهي بان رزقه ذرية جميعهم من الانبياء، ولعل اللفتة البلاغية في هذه الاية هي ان ذكر النبي اسحق عليه السلام وحفيده النبي يعقوب سلام الله عليه دون ذكر ابنه النبي اسماعيل عليه السلام لكون اسحق ويعقوب عليهما السلام كانا نحت كنف النبي ابراهيم عليه السلام وكان يستأنس بهما بعد ان رزقه الله الذرية على كبر، وان اسماعيل عليه السلام كان بعيدا عنه في قصة مشهورة.
وورد ايضا مفهوم التعويض الالهي لاعتزال الصالحين للكافرين بشكل جلي في قصة اصحاب الكهف في قوله تعالى : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا) (الكهف/16)، لاحظوا معي التعويض الالهي لاشخاص عاديين وليسوا بمعصومين وصفهم القران بانهم فتية امنوا بربهم وزدناهم هدى، رفضوا الشرك والكفر وعبادة الاصنام وتحملوا النصب والعذاب في سبيل اعلاء كلمة التوحيد فشملتهم رحمة ربانية عظيمة بان جعلت منهم معجزة لجميع العصور في قصتهم المعروفة لمن اراد التفكر والتدبأ.
وفي التامل في سياق بعض الايات الكريمة المتفرقة وجمعها وتفسيرها نجد مفهوم الاعتزال واضحاً في قصة النبي موسى عليه السلام عندما اعتزل قومه اربعين ليلة لإتمام ميقات ربه فكانت هبته الالهية بان انزلت عليه الالواح وفيها الموعظة والتفصيل من كل شيء.
وفي قصة اعتزال النبي نوح عليه السلام لقومه بوحي من الله عزوجل وانشغاله ببناء السفينة التي كانت هي السبيل في نجاة المؤمنين جميعا وهلاك الكافرين جميعا.
وكذلك اعتزال رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه واله وسلم لقريش في غار حراء تعبيرا عن رفضه للكفر وعبادة الاوثان والعادات الجاهلية المقيتة فكان التعويض الالهي من اعظم ما عوض به نبي او رسول او ولي في مفهوم الاعتزال حيث حباه الباري عزوجل برحمته وحبه فاصبح حبيب الله ونبيه بوحي الرسول الامين في اعظم كلمة ابتدا بها اي دين سماوي اخر (اقرأ)، ولعمري لهو من اعظم التعويضات الالهية حيث لم تشمل الرحمة الرسول محمد صلى الله عليه واله وسلم فقط بل امتدت لتشمل البشرية على مر العصور باتباعها لهذا الدين القويم والايمان بالنبي العظيم والرسول الكريم محمد صلى الله عليه واله الطيبين الطاهرين .
|