الايمان قناعات، وقناعة رجل عشق دينه وعاش في كنيسة في جوف صحراء لا ماء فيها إلا ما يحمله كل شهر على دوابه فيقتات بها، لكن ما الذي رأى هذا الراسخ العقيدة؛ كي يقتنع بالموقف الجديد، ويعلن اسلامه.
حملت مثل هذا السؤال اليه، فقال: كنت ارى من بعيد جيشا تبدو علامات التعب والاجهاد والعطش عليه، كنت انظر اليهم واستغرب: لِمَ تركوا الطريق ومالوا صوب الدير، اكيد هم يعتقدون ان في الدير ماء؟
وحين وصلوا اسمعهم ينادونني، واذا بأميرهم يدعوني ليسألني: هل قُرب قائمك هذا ماء يتغوَّثُ به هؤلاء القوم؟ فقال: هيهات، بيني وبين الماء أكثر من فرسخين، وما بالقرب مِنِّي شيء من الماء، ولولا إنـني أُوتي بماءِ يكفيني كلَّ شهر على التقتير لتلفت عطشاً.
سمعت البعض يطلب منه المسير، لكني انظر الى عيني قائدهم وكأنه غير مصدق لما اقول ربما يظن اني اخبئ عنهم الماء..! سمعت اميرهم يقول: لا حاجة بكم إلى ذلك، ولوى عنق بغلته نحو القبلة وأشار لهم إلى مكان يقرب من الدير. فقال: اكشفوا الأرض في هذا المكان، فعدل جماعة منهم إلى الموضع فكشفوه بالمساحي، فظهرت لهم صخرة عظيمة تلمع .
فقالوا: يا أمير المؤمنين، هنا صخرة لا تعمل فيها المساحي .
فقال لهم: إنَّ هذه الصخرة على الماء، فإن زالت عن موضعها وجدتم الماء، فاجتهدوا في قلبها. اجتمع القوم وراموا تحريكها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، واستصعبت عليهم. فلما رآهم أميرهم قد اجتمعوا وبذلوا الجهد في قلع الصخرة فاستصعبت عليهم، لوى رجله عن سرجه حتى صار على الأرض، ثم حسر عن ذراعيه ووضع أصابعه تحت جانب الصخرة فحرَّكها، ثم قلعها بيده، فلما زالت عن مكانها ظهر لهم بياض الماء، فتبادروا إليه فشربوا منه، فكان أعذب ماء شربوا منه في سفرهم وأبرده وأصفاه، فقال لهم: تزوَّدوا وارتَوُوا، ففعلوا ذلك، ثم جاء إلى الصخرة فتناولها بيده ووضعها حيث كانت، وأمر أَن يُعفى أثرها بالتراب، وانا انظر الى ما يفعل، فوقف بين يدي أميرهم اسأله:ـ هل انت نبي؟ فقال: لا.. قلت: فملك مقرَّب؟ قال: لا.. قلت: فمن أنت؟ قال: أنا وصي رسول الله محمد بن عبد الله خاتم النبيِّين.
فصرخت باكياً: أبسط يدك، أُسلم لله تبارك وتعالى على يدك، فبسط أمير المؤمنين (عليه السلام) يده وقال له: اشهد الشهادتين. قلت: أشهد أَن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد أنك وصي رسول الله، وَأَحَقَّ الناس بالأمر من بعده.
فأخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) عليّ شرائط الإسلام ثم قال لي: ما الذي دعاك إلى الإسلام بعد طول مقامك في هذا الدير على الخلاف؟
قلت: أخبرك – يا أمير المؤمنين –، إن هذا الدير بُنِي على طلب قالع هذه الصخرة ومخرج الماء من تحتها، وقد مضى عالم قبلي لم يدركوا ذلك، وقد رزقنيه الله (عزَّ وجلَّ)، وإنـا نجد في كتاب من كتبنا ونأثرُ عن علمائنا أن في هذا الصقيع عيناً عليها صخرة، لا يعرف مكانها إلا نبيّ أو وصيّ نبيّ، وأنه لا بد من ولي لله يدعو إلى الحقِّ، آيته معرفة مكان هذه الصخرة، وقدرته على قلعها، وإني لما رأيتك قد فعلت ذلك تحققَ ما كنت أنتظره، وبلغت الأمنية منه، فأنا اليوم مسلم على يدك، ومؤمن بحقك وموالاتك.
فلما سمع ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: الحمد لله الذي لم أكن عنده منسياً، الحمد لله الذي كنت في كتبه مذكورا، ثم دعا الناس فقال لهم: اسمعوا ما يقول أخوكم هذا المسلم، فسمعوا مقالتي، ثم سار (عليه السلام) وانا بين يديه في جملة أصحابه حتى لقي أهل الشام، فكنت من جملة من استشهد معه، فتولى الإمام (عليه السلام) الصلاة عليّ ودفني وأكثر (عليه السلام) من الاستغفار لي، وهذا يحتاج الى (بخت) ولله الحمد .
|