• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : سنابل البراءة .
                          • الكاتب : زينب العارضي .

سنابل البراءة

للهِ دُرُّكم يا آلَ عقيل، كبارُكم ساندوا الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وجادوا بكُلِّ عطاءٍ جميل، ثم صنعوا مع السبطِ الشهيدِ بعد حين ملحمةَ الخلود، وفدوا إمامَ زمانِهم الحُسين (عليه السلام) بكُلِّ غالٍ وثمين..
وصغارُكم قُتِلوا ظُلمًا، وسُحِقوا تحتَ سنابكِ خيلِ الأعداءِ قهرًا، حينما فرّوا في صحراءِ الطفِّ هلعًا من نيرانِ حقدِ الظالمين. وكأنّ قدرَ هذه الأسرةِ الجليلة أنْ تكونَ للإسلامِ فداءً، ولنصرةِ الحقِّ نبراساً، وعلى دربِ التضحياتِ الجسامِ مناراً للثائرين.
ومن بين أولئك الأطفالِ الفارين في صحراءِ كربلاء الشاسعة، طفلان صغيران لمسلمٍ بن عقيل (عليه السلام)، فرّا معًا وهما لا يعلمان إلى أين يتجهان! ذهبا ينشدانِ موطنًا للإيمان، ومحلًا يشعران فيه بالراحة والأمان، بعد أنْ فتكَ الشيطانُ بقلبِ الإنسانِ، وأغراهُ بالسجودِ له بعدما كرّمه ورفعَ شأنَه واجتباهُ للخلافةِ الرحمن!
ولكنّه الشيطان... 
نعم هو الشيطان، كان يمشي في الطريقِ ليحظى بغنيمةٍ يُسِرُّ بها قلبَ السلطان، وأيّ شيءٍ يا تُرى؟ أنفسُ وأغلى ثمنًا من ذُريّةِ من نصروا الإمام الحسين (عليه السلام) بالحسام والبيان واللسان؟!
طار الشيطانُ فرحًا، وترنّمَ جذلًا، بعدما عرف أنّهما يتيمان، ومن ذُريّةِ من استشهد عطشًا في أرضِ كوفان، فأخذهما مسرورًا وهو يحلمُ بجائزةِ أميرِه المشؤوم، فدخلا قصر اللعين، يحملان رسالةَ دماءِ شهداءِ الطفِّ الصالحين، ويريان أنّهما مُكلفان بحفظِها وصيانتِها وإيصالِ صداها مهما كانت الأثمان؛ لذا لم يُسلِّما عليه بالإمارة، ولم ينحنيا أمامَه بكُلِّ ثقةٍ وجسارة، فاستشاطَ اللعينُ غضبًا، وتميّزَ غيضًا، وراحَ يهزأُ بالدماء، ويفخرُ بما جرى على يديه في أرض كربلاء، فانطلقا يُبينانِ له الحقيقة، ويكشفانِ عن بصرهِ غشاوةَ العمى؛ ليسلبانِ منه نشوةَ النصرِ الكاذب، ويتوعدانه بظهورِ الحقِّ واعتلاءِ رايته، ولو بعد حين.
فتوسّل بأساليبِ من سبقوه، فأمر بحبسهما والتضييق عليهما، غافلًا عن أنّ الذهبَ يُمتحنُ بالنار؛ ليشتدَّ بريقه ويتألقَ نوره فيأخذ بالأبصار، وأنّ الأرواحَ النقية تزدادُ نصوعًا، وتتوهج اللآلئ في أعماقِها كُلّما ازدادت أمواجُ البلاء.
نعم، في جُدرانِ السجنِ القاسية لابنِ زيادٍ (لعنه الله واخزاه) كانا هناك؛ لينسجا للتاريخِ من سجلِ آلامِهما الحكايا الموجعة والقصص المُبكية، بعد أنْ علا وجهيهما الشحوب، وفتكت بقلبيهما الآلام، فقد أوغل اليُتمُ فيهما مكانًا قصيًا، وغادرتْهما الابتسامةُ برحيلِ تلك الأنوارِ البهيّة في كربلاء الفداء والتضحية، ولم يبقَ معهما غيرُ ذكرياتِ الطفِّ الأليمة، التي لم تزلْ تطعنُهما ذاتَ اليمين وذاتَ الشمال، وتنخرُ روحيهما البريئتين.
زهرتان نضرتان ذبلتا في سجون الطواغيت، لكنّهما لم يفتآن يبينان من هما وعظيم قربهما من نبي الإسلام، ويدعوان إلى سبيل الله (تعالى) بطيبِ الموعظة وجميلِ الكلام. 
فرقَّ السجّانُ لعتمةِ أيامهما، وبكى مُعتذرًا عن جهلهِ بحقِّهما، ثم فكّ أصفادَ الوجعِ عنهما، فابتغيا أنْ يُرفرفا كحمامتين جميلتين لم تألفا إلا أعالي السماء موطنًا، ولم تعشقا إلا القممَ مسكنًا.
هربا، فساقتهما أقدامُها في طريقِ الكفاحِ إلى بيتِ امرأةٍ مؤمنةٍ في زمنٍ عزَّ فيه الإيمان، ونَدُرَت فيه المواقفُ الجريئة التي تُترجِمُ صدقَ الولاءِ للإسلام والحُبِّ لذُريّةِ مُحرّرِ الإنسان من سطوةِ الظلمِ والعدوان..
ففرشتْ لهما قلبَها، ووضعتْ لهما روحها، وهي تشمُّ منهما بقايا عطرِ أميرِها العادل علي (عليه السلام)، وترى في وجهيهما آثارَ غربتِه في ذلك الزمن الموحش.
يا لها من حكايةٍ عجيبةٍ! فمع مسلمِ بن عقيل (عليه السلام) كانت طوعةُ الأبيّة، ومع طفليه كانت هذه العجوز الوفيّة، ولأولِ مرةٍ ينعمُ الطفلان الصغيران في بيتِ العجوزِ بالأمان، ويحتضنُ أحدُهما الآخرَ في مشهدٍ دمعت له عينُ التاريخ والإنسان. 
ولكنّه الشيطان...
نعم مرةً أخرى يأتي الشيطان؛ ليُحرِّكَ الطمعَ القابعَ في سراديبِ ضلالِ النفوس؛ ليحبسَ الحمامتين ويحول دون تحليقهما، ويمنعَ في قسوةٍ وغلظةٍ رفرفةَ جناحيهما، ويفلح الشيطان في تحريضِ من باع نفسه بالخسيس؛ ليستلَّ سيفَ البغي ويحصدَ سنابل البراءة، فيحزَّ رأسين صغيرين، لمُبلِّغِ رسالةِ الإمام الغريب سفيرِ الحُسين (عليه السلام)، فيودِّع القلوبَ وجعًا لا ينتهي، وحسرةً لا تنقضي على مرِّ السنين.
فالسلامُ على تلك الدماءِ الزكيّة التي لوّنت نهر الفرات، وتناثرتْ ذودًا عن الإسلامِ في زمنِ الطغاة، سلامٌ عليكما سادتي وأنتما تُكملان نهضة السبطِ الشهيد، وتتحديان بنقاءِ الطفولةِ كُلّ سلطانٍ عنيد، وتكشفا زيفَ ادعاءِ الأعداءِ وبشاعتهم؛ ليكون موقفكما استمرارًا لرسالةِ ساداتِكما، يُطلِقُ في المدى علاماتِ استفهامٍ كبرى، كُلّما مرَّ أحدٌ على تاريخٍ حوى قصتكما، أو نزلَ بأرضٍ احتوت أجسادكما، وفازتْ بأنوارِ ضيائكما لتبقيا معلمًا للأحرار،
ونبراسًا للثوار، وملاذًا لمن يبتغي نصرةَ الحقِّ بسيفِ البيان، ويرفض في إباءٍ وصمودٍ الخضوع للطاغوت والشيطان، مهما تجبّر المنكر ولبسَ لباسَ الحقِّ ليخدعَ الرائي ببريقِ الألوان.
سلامٌ عليكما سادتي من قلبِ كُلِّ موالٍ لا زالَ يتنسمُ عندَ ضريحكما عطرَ التحدي والإصرار، ويستمدُّ منكما ثباتَ القدمِ في مُنزلقِ الطريقِ عند اشتدادِ العُتمةِ وغيابِ ضوء النهار، سلامٌ عليكما سادتي وأنتما تُلوِّنان بدماءِ البراءةِ لوحةَ الفداءِ التي حوتْ أسماءَ الفائزين بنصرةِ أبي الضيم سيّد الشهداء.
 




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=153898
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2021 / 04 / 09
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 16