يبدأ الإنسان حياته كصفحة بيضاء خالية من كل شائبة، حيث خلقه الله تعالى على فطرته السليمة، فأما أن يحافظ على هذه الفطرة فتبقى سليمة نقية كما خلقها الله تعالى أو يبدأ بالابتعاد والانحراف عن هذه الفطرة فتصبح ملوثة تغطيها الشوائب، ومن أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة وعن جادة الطريق هو انشداد الإنسان إلى عالم المادة، وبذلك يحجب الإنسان بحجب ظلمانية وتزداد هذه الحجب كلما زاد انشداده إلى الدنيا وعالم المادة ويحدث هذا بسبب غفلته عن الهدف الذي خلق من أجله.
إذن، هذه الحجب وهذه الأستار هي حجب الغفلة، وللغفلة أنواع أو لِنقل حالات بتعبير أصح. فقد يكون حجاب الغفلة رقيقًا، وهذه هي حالة المؤمن إذا وعظته فيتعظ وإذا ذكرته فيتذكر، وهي كحالة النائم الذي إذا أيقظته ينتبه من نومه.
وما دام قلب الإنسان سليمًا وعقله واعيًا، فإنه يتعظ من كل شيء حوله، يقول الإمام الكاظم (عليه السلام): (ما من شيء تراه عينيك إلّا وفيه موعظة ) " (١).
أو قد تكون كالذي فقد حواسه وهي أشد من الحالة الأولى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) الأعراف (آية 179).
يحكى أن هارون العباسي قد زخرف مجالسه وبالغ في تزيينها ووضع طعامًا كثيرًا، ثم أرسل إلى أبي العتاهية، فأتاه، فقال له صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا، فقال له:
عش ما بدا لك سالمًا في ظل شاهقة القصور
يسعى اليك بما اشتهيت لدى الرواح وفي البكور
فإذا النفوس تقعقعت في ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنا ماكنت إلا في غرور
فبكى هارون، فقال الفضل بن يحيى لأبي العتاهية: بعث اليك الخليفة لتسره فأحزنته؟ فقال هارون: دعه، فأنه رآنا في غفلة وعمىً، فكره أن يزيدنا.
أما الحالة الثالثة فصاحبها تمامًا كالميت ومثل هؤلاء لا تنفع معهم أي موعظة أو تذكرة لأنهم (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) النحل (آية 21). يقول جورج قرداج في كتابه الإمام علي (عليه السلام) يصل الإنسان الى حالة يقتل ولي الله في بيت الله قربة الى الله!
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) (٢)، فنرى الإنسان يعمل ويتحدث ويأكل و...، إلّا أنه في نوم وهو نوم الغفلة...
الغفلة عن الهدف من وجوده في هذه الحياة، والغفلة عما ينتظره بعد الموت (لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)) سورة ق.
لقد كنت لاهيًا ومنهمكًا في مشاغل الدنيا من متعة ولهو وصراعات فضرب عليك حجاب من الغفلة والقساوة ولم تكن مستعدًا لمثل هذا اليوم.
أما أمير المؤمنين (عليه السلام) فيقول: (لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا) "(٣). لأنه (عليه السلام) لم يكن غافلًا بل كانت الحقائق حاضرة عنده.
وبذكر الله تعالى والتوجه اليه ممكن أن تتبدل هذه الحجب الظلمانية الى حجب نورانية فتكشف الحقائق والمعارف للإنسان فيصبح بصيرًا ويهتدي إلى الطريق القويم الذي رسمه الله تعالى إليه وبذلك يعود الى فطرته السليمة التي خلقه الله تعالى عليها.
اللهم اجعلنا من الذاكرين ولا تجعلنا من الغافلين
|