إعلم ان للتفكر فضائل كثيرة فالتفكر هو مفتاح أبواب المعارف وخزائن الكمالات والعلوم ، وهو مقدمة لازمة وحتمية للسلوك الإنساني ، وله في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة تعظيم بليغ وتمجيد كامل ، كما ان تاركه معير ومذموم . وقد جاء في «الكافي» الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام:
«أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته» (4) . ويرد ذكر لهذا الحديث فيما بعد . وفي حديث آخر: «تفكر ساعة خير من قيام ليلة» . وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «ان تفكر ساعة من خير عبادة سنة» . وفي حديث غيره: «ان تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة» ، وفي رواية: «سبعين سنة» ، وعن بعض علماء الفقه والحديث: «ألف سنة» . وعلى كل حال ، ان للتفكر درجات ومراتب ، ولكل مرتبة نتيجة او نتائج ، وسوف نتناول بعضها.
الاول: هو التفكر في الحق تعالى ، وأسمائه وصفاته وكمالاته . ونتيجة ذلك هو العلم بوجوده وبانواع تجلياته ، التي منها الأعيان الواقعية والمظاهر الخارجية . وهذا أفضل مراتب التفكر ، وأعلى مراتب العلوم ، واتقن مراتب البرهان . اذ ان الانتباه الى ذات العلة ، والتفكر في السبب المطلق ، يدفع بالإنسان الى العلم به وبالمسببات والمعلولات.
وهذا هو رسم تجليات قلوب الصديقين ، ولذلك سمي باسم: «برهان الصديقين» . فالصديقون بمشاهدة الذات يشهدون الاسماء والصفات ، وفي مرآة الأسماء ، يشهدون الأعيان والمظاهر . وما تسمية هذا القسم من البرهان باسم «برهان الصديقين» إلا لأن الصدّيق اذا أراد أن يظهر مشاهداته في صورة برهان ، وان يضع ما وجده ذوقا وشهودا في قالب الألفاظ ، لكان هكذا.
▪️ -ولا يعني هذا الإسم ان كل من استدل بهذا البرهان على ذات الله وتجلياته كان من الصديقين ، ولا ان معارف الصديقين هي من سنخ البراهين ، فإن لهم براهين خاصة وهيهات ان تكون علومهم من جنس التفكر ، او ان تكون ثمة مشابهة بين مشاهداتهم وبين البرهان ومقدماته . فما دام القلب في حجاب البرهان ، وخطوته هي خطوة التفكر ، لا يكون قد وصل الى أول مراتب الصديقين . واذا ما خرج من حجاب العلم والبرهان السميك ، فلا علاقة له بالتفكر ، بل يفوز في آخر الأمر ومنتهى السلوك بمشاهدة جمال الجميل المطلق ، من دون واسطة البرهان ، وحتى من دون واسطة اي كائن ، ويذوق اللذة الدائمة السرمدية ، ويتحرر من الدنيا وما فيها ، ويبقى في الفناء التام تحت قباب الكبرياء ، ولا يبقى منه إسم ولا رسم ويصبح مجهولا مطلقا ، إلا إذا شملته العناية الإلهية وأرجعته الى مملكته وممالك الوجود على قدر سعة وجود عينه الثابتة ، ويتم له في هذا الرجوع كشف سبحات الجمال والجلال ، ويشهد في مرآة الذات الأسماء والصفات ، ومنها يفوز بمشاهدة عينه الثابتة وكل ما هو تحت ظل حمايته ، وتتكشف كيفية سلوك المظاهر والرجوع الى الظاهر ، على قلبه ، ثم يتشرف برداء النبوة . اذ في هذا المقام يظهر اختلاف مقامات الأنبياء والرسل ، وتنكشف لهم في هذا المقام سعة دائرة الرسالة او ضيقها والمبعوث منه والمبعوث إليه.
ان الإسهاب في المقال بهذا الشأن لا يتناسب مع هذه الأوراق ، حتى أننا تغاضينا عن برهان الصديقين ايضا لأن له مقدمات يطول شرحها هنا.
|