• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : المقالات .
              • القسم الفرعي : المقالات .
                    • الموضوع : الشهيد و أُمِّــي  .
                          • الكاتب : حسن الجراح .

الشهيد و أُمِّــي 

ضوع "شيلة" أمي و معصبها يسري عطرهما في دمي و هو العطر الأول الذي عشقته و لم يحلُ أو يطِب لي بعده أيَّ عطرٍ آخرَ. إنه مزيج فريد من قرنفل زنجبار المسحون و خلاصة الورد المحمدي و المسك الجامد و يتخلله عطر إلهي خص الله به أمي لأميزها من بين ملايين الامهات إذا ما غابت عن ناظري. كل هذا الوصف تلاشى و لم يقف صامداً أمام نفحة العطر الزكي التي اندفعت من ضريح الشهيد لتستقبلنا أنا و أمي عند باب القبلة. 

كان اللون التركوازي يرقص جذِلاً على كل تراكيب الزخارف النباتية و الحروف المقدسة التي تملأ حدود الفضاء الملكوتي في ضريح الشهيد ليصل ذروته في النشوة الى اعتاب المنارتين الذهبيتين السامقتين والقبة الملكوتية و يرجع حاسراً خشية الاحتراق بالنور السرمدي المنبعث من جميع الاتجاهات و الأركان في تلك البقعة الذهبية، بيد أن الحروف البيضاء أخذت بالتغيّر نحو اللون الازرق النيلي و هي لازالت تمتد كالبرق اللامع تتسارع مع وهج اللون الذهبي الى أقصى الحدود كأنهما فرسا رهان عربيتان قد اتخذتا من معراج السماء مضماراً لهما.  

في تلك الاثناء قفزت ذاكرتي الى صورة أخرى و هي صورة خالتي "أم هاشم" و هي أكبر سناً من أمي وقد ذاقت في أرياف قرية "أبو عويجيلة" في قضاء "طويريج"من مرارة الدنيا ما لا يمكن سرده واختبرت صنوفاً من البلاء و الفقر ما يقنط عندهما الكثير، لكنها كانت كريمة النفس بشكل عجيب لا يصدق، فمثلا ذات مرة أرادت زيارتنا في بغداد ولم تكن تمتلك أجرة السفر فعمدت الى بيع رأس حلال من الأنعام التي كانت تقتنيها عائلتها  كي تشتري بثمنه "الدهن الحر" و "صوغات" أخرى من الريف الينا، وتصرف ما تبقى من الثمن على أجرة الذهاب والإياب، لانها كانت ترى من المعيب والمخجل وبحسب ما نشأت عليه أن لا تزور شخصاً الا ومعها هدية حتى لو كلفها ذلك أن تبيع جميع ما تملك من أنعام!. 

 كانت خالتي "أم هاشم" ترتدي عباءتين:  الأولى تضعها على متنها والثانية منسوجة من قماش "الچوخ" الخشن، وكانت إذا تمشي في الطريق العام في ريف "أبو عويجيلة" وصادف أن مرَّ رجل في الطريق تسارع الى الجلوس حتى يمر ذلك الرجل مخافة أن يرمق شخصها.   

أخذتني أمي الى قبر الشهيد وصادف ذلك وجود خالتي أم هاشم معنا. كانت تلك الزيارة بمثابة التعميد لي، وهي حجر الزاوية لي في حبي لذلك الشهيد و التعرف إليه عن كثب، و كانت أمي و خالتي توفران لي مجالاً لأكون أمامهما حينما دخلنا ضريح الشهيد ووصلنا الى شباك القبر وعمدت أمي أن تمسك يدي اليمنى الصغيرة بيدها اليسرى و أمسكت بيدها اليمنى الشباك المفضض لضريح الشهيد وأخذت تناجيه وتقول له :" بلزم الله ولزمك "، وأما خالتي فقد غابت عن ناظري للحظات و أظنها كانت تريد أن تختلي بالشهيد لتبث شكواها عنده فهي تراه باباً من ابواب الله لا يغلق أمام الطلبات و الحاجات. 

 كانت زيارة ضريح الشهيد في ذلك الوقت وتحديداً في بدايات الثمانينيات متاحة أمام الرجال و النساء و لا يوجد فاصل بينهما و قد عرجت بي الى قبور الشهداء و قبر "السيد ابراهيم المجاب" و قبر "حبيب بن مظاهر الأسدي" و كانت تلك المقامات والشواهد يفيض من زائرها الخشوع و الرهبة و الحزن، و لم تنته نقاط الدلالة في خريطة أمي، بل بقي مكانان صحبتني اليهما وكانا من الاماكن المفجعة والمحزنة و التي تنطوي على كم هائل من الذهول و الوجع. 

المكان الأول كان "مذبح الحسين" كما قالت لي أمي ويقول الناس عنه أنه " منحر الحسين"، لم أكن استوعب و أنا صبيٌّ في ذلك الحين لماذا يكون للحسين مذبحٌ أو منحرٌ؟! كان المنحر عبارة عن شباك صغير و يحتوي بداخله على مرمر مائل للاخضرار و يفيض المكان بالضياء الاحمر في كل أرجائه ليكون مميزا لجميع المقامات و القبور في ضريح الشهيد. و أما المكان الثاني فهو "الخيمگة" و هو مصحف من كلمة "خيمَگاه" الفارسية وتعني بحسب المصطلح الحسيني مخيم العائلة الحسيني ضمن معسكر الإمام الحسين. 
تدخل المكان ليلفه الصمت في الدقائق الأولى ومن ثم تنبعث في ضميرك أصوات أطفال مرعوبة و نساء معولة وصوت طقطقة حرق الخشب - لعله أوتاد الخيم – و صوت النار المزمجرة في الخيام و ضرب حوافر الخيل على الأرض، و ليس ببعيد عن مكان المخيم تسمع وجداناً أضلاع الشهيد تتكسر الى شظايا صغيرة تحت سنابك الخيل التي تعدو على جسد الشهيد بكل قوة وبكامل ثقلها مع ثقل الفرسان الذين يعلونها، وبالقرب من المخيم هناك ربوة كانت تعتليها أخت الشهيد حاسرة، تارة رافعة بكلتا يديها الى السماء جزعاً على الشهيد واخوته وتارة أخرى تشبك عشر أصابعها على هامة رأسها وهي لا تعرف أين تتجه ولمن تناجي بعد أن فقدت بوصلة فكرها.
هل تتجه صوب المدينة نحو جدها وأمها وأخيها المسموم؟
أم تتجه صوب النجف لتستنجد بأبيها؟
أم تتوجه نحو شاطي الفرات لتطلب من أخيها العباس النجدة؟، لكنه قد قتل هو واخوته.
فَكَّرَتْ في ان تستنجد بابن الشهيد علي الأكبر شبيه جدها رسول الله، لكنه هو الآخر قد قتل. 
لم يكن لها من بد الا أن تثني عطفها و ترنو بعينيها صوب الشهيد المجندل على البوغاء وتصيح بأعلى صوتها المتهدج المبحوح :" واحسيناه"... " وا أخيّاه"... "وا نور عيناه".

أنهت أمي وخالتي زيارة قبر الشهيد و رجِعتُ الى البيت مغموماً كئيباً وكانت تلك الزيارة هي بذرة زرعتها أمي في نفسي لتنمو متجذرة في ضميري مكونة عقيدة راسخة ولتخبرني بالمشاهدة والوجدان إن هذا الشهيد هو الحسين بن علي بن فاطمة سبط النبي محمد أخو الإمام الحسن المسموم. 
أصبح الحسين لا يفارق مخيلتي وأجده حاضراً أمامي قبل شرب الماء البارد المعين و بعد الارتواء و في جميع محطات سبيل الماء و في ليالي الجمع و يوم عاشوراء و العشرين من صفر والنصف من شعبان و يوم عرفة.
أجد الحسين في بركات البساتين الموقوفة باسمه لخدمة زائريه و في بركات و نماء الأنعام التي تخصص نسبة منها لتنحر في سبيل الله وتقدم لإقراء زائريه
أجد الحسين بنياناً مصوغا مشتقاً من اسمه الشريف: حسينية يذكر فيها اسم الله و تذكر واقعة كربلاء رثاء وندباً ومجالس وعزاءً ولطماً.
أجده في كل طفلة اسمها "رقيَّة" وأرى اسمه في عيون كل الايتام الذين تشابهت قصصهم مع قصة رقية.
أجده اسماً لأخي الأكبر "حسين" و في قَسَم أمي اذا ما أرادت أن تقسم لتقول " و حگ الحسين" وإذا كان الأمر مغلظاً لديها و ينطوي على عزيمة قوية لتحقيق شيء فلا يعدو قسمها الا أن تقسم بالعباس أخي الشهيد لتقول :"و حگ أخو زينب". 


 – النجف الاشرف - تاسوعاء 1442 هـ - 29 آب 2020 مـ




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=147755
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2020 / 08 / 29
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 05 / 18