ها هي جائحة كورونا تتجاوز شهرها السابع وتخطو عالمياً بخطوات واثقة نحو الشهر الثامن، آخذةً بطريقها الملايين، وموديةً بحياة مئات الآلاف.
ومنذ الشهر الثالث كانت الملايين تتداول الأمل بظهور العلاج، مودعةً ثقتها بمدنيّةٍ حديثة قد طارت في مجالات البحث العلمي والتقنيات بعيداً وحلّقت عالياً، ولكن حتى اليوم لا بوادر علاج في الأفق.
وكانت الدول الكبرى سبّاقةً إلى اعتماد سياسة القطيع، ومصرّحةً بأولوية عجلة الاقتصاد على حياة الآلاف - خاصة المسنّين- ومبادرةً إلى اتباع سياسة التفاضل في إعطاء الإنقاذ بين أبناء الشعب الواحد، في مشهديّة صادمة هزّت الصورة المثالية للعالم المتحضّر وحقوق الإنسان فيه، واستوجبت مراجعة حساب للمستلبين في العالم النامي، الجالدين لذاتهم ومجتمعاتهم، والمقدّمين فروض التقديس للحضارة الغربيّة بكل ما تحتويه.
كان لهذا المشهد في وطننا لبنان صورة أخرى، حيث تقاسم الوباء المشهد، مع أزمة اقتصاديّة غير مسبوقة في تاريخ البلد المتعسّر، زادت المواطن عبئاً على عبء، مع شح في السلع الأساسية، وغلاء فاحش في الأسعار تحت وطأة انهيار العملة الوطنيّة.
كان البلد في بدايات الأزمة خاضعاً لنظام حظر يشمل كل شيء عدا ما يتعلق بالغذاء والدواء.
ولكن ضيق ذات اليد رفعت الحظر عن الأسواق، فلا معنى لفتح مخازن الغذاء والمواطن لا يعمل ليشتري.
ثم روعيت الحالة النفسية للمواطن والاقتصادية للعاملين في مجال السياحة والترفيه مع قدوم الصيف، ففُتحت المقاهي والمسابح والشواطئ، ومراكز اللهو والتسلية.
ونظراً لحساسية الاختصاصات الجامعية وتوزع مناهجها على المواد ، فقد استثنيت الجامعات من قرار الإغلاق وفتحت أبوابها للامتحانات مع مراعاة لقواعد التباعد.
ولتستمر عجلة الحياة فقد غضت الجهات المعنية النظر عن تجمعات التهاني والتعازي فقامت الأعراس وفُتحت بيوت العزاء.
كل هذا استجابة لمطالب الناس الذين لا يستطيعون العيش دون هذه المقومات، وكان هذا الفتح متزامناً مع ثباتٍ أو تزايد في أعداد المصابين.
وبقي مكان واحد في هذه الشدة خارج دائرة المطالبة، وداخل دائرة الحظر: دور العبادة.
ولا نستطيع أن نقول أنه لم يتم استثناؤها من إجراءات الحظر، لأنها صارت الاستثناء بعد أن قبعت وحيدة في دائرة الحظر، فالسلامة مهمة ، وليس في العبادة ما يصلح لموازنته بها، خلافاً لكل ما أسلفنا ذكره.
مؤشر خطير يدل على أن العامل الغيبي والعلاقة بالخالق، تجاوز حد الأمر غير الضروري المتأخر عن الغذاء والعمل والدراسة ، ليصبح أكثر هامشية، حيث يقع في سلّم الأولويات تحت الترفيه واللهو والتسلية.
مع خصوصية تزيد المشهد سوءاً؛ وهي أننا في أتون بلاء متعدد الجنبات، يفترض فيه بأهل الغفلة أن يعودوا معه إلى الله ، باحثين عن خلاص لم يعد ظاهراً في أفق ظروفهم الموضوعية.
وذلك على القاعدة القرآنية: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٠)بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (٤١)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢).
لينكشف أننا صرنا في دائرة القسوة وتزيين سوء العمل، الذي يجعل الإنسان لا يتفاعل إيجابياً حتى مع احتدام البلاء كما أوضحت الآيات الكريمة: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣).
وأكبر الخوف أن ينكشف البلاء تلقائياً دون أي تغيير في الحسابات، فعندها يكون المشهد القرآني قد اكتمل، ويكون الفرج إطغاءاً للإنسان الذي خرج من كنف التأديب الناشئ عن الرحمة، ليدخل في بوتقة الغضب الموجب للعذاب: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤)فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥).
|