تعليقٌ قرأتُه لأحد الشباب على الصورة المرفقة التي نشرَتْها إحدى الصفحات، وكان صاحب التعليق يريد أن ينفي أي فائدةٍ تُذكر للمجتمع الشيعي من وجود الحوزة العلمية !
وقبل أن أُبيّن ما يخالف اعتقاد هذا الشاب وضرورة وجود الحوزة العلمية في المجتمع الشيعي أريد أن أقول :
أعتقد أنّ اشتباه هذا الشاب ناتج عن أربعة أمور :
الأول : هو كتاباتُ الكثير من الأقلام التابعة لجهات عديدة ( ومنها جهات شيعية ) وبرامجُ منظّمة همّها إبعاد شبابنا عن أهم عنصر من عناصر قوة مذهبنا وهو العلماء الحقيقيون، لدواعٍ سياسية أو ثقافية يرى أصحابُها أنّ بقاء الصورة المشرقة للعلماء في نفوس الناس - وبالأخص الشباب - تحول دون تحقيق تلك الأهداف السياسية أو الثقافية.
الثاني : تعمّد نفرٍ من الحوزة نفسها شذّوا عنها واتخذوا طريقاً بمعزلٍ عن طريقها بدافع حب الظهور أو الطمع بالرياسة أو الحسد أو ما ينسجم مع هذه الدوافع، تعمّد هؤلاء النفر على تربية جماعات على بغض العلماء وتشويه صورتهم والحطّ من شأنهم ولصق اتهامات لا أساس لها بهم، فمُلئت بعض النفوس بهذه الأمور حتى صار الانتقاص من المراجع والعلماء ثقافة طبيعية في بعض الأوساط على خلاف ما أمر به أهل البيت (ع) من لزوم توقير العلماء وعدم الأخذ إلا منهم !
الثالث : عدم وجود القدر الكافي من الإعلام المضاد لهذه الهجمات المنظمة، إما لامتناع العلماء الحقيقيين عن إبراز فضائلهم خشية أن يُعدّ ذلك ترويجاً للنفس وهو مخالف للآداب العلمائية، وإما لوجود تقصير أو قصور في إعلامنا الديني في المساحة التي لا تُعدُّ ترويجاً للنفس.
الرابع : لم يكلّف الكثير من الشباب أنفسهم بجهدٍ حقيقي للتحري والبحث عن الحقيقة.
ضرورة وجود الحوزة العلمية في المجتمع الشيعي :
لا يسعني أن أذكر كلّ الفوائد والأسباب التي جعلت من وجود الحوزة العلمية بعد الغيبة ضرورة قصوى، ولكن سأذكر بعضها متأملاً من القارئ أن يفكر في بعضها الآخر.
فمن تلك الأمور والفوائد :
أولاً : إنّ هذه الحوزة العلمية هي نتاج ذلك التأسيس الذي أسسه الأئمة (ع) خصوصاً الإمام الهادي والإمام العسكري (عليهما السلام) حيث صدرت منهم أحاديث كثيرة تؤكد على أهمية الفقهاء ورجوع شيعتهم إليهم، بل وصل الحال إلى أن يأمر الإمام الشيعة أن يرجعوا إلى أولئك الفقهاء المتواجدين في بلدانهم في مسائل الحلال والحرام.
كلّ ذلك تمهيداً لمرحلة ما بعد الغيبة، وليكون العلماء من الشيعة سفراءً عند الإمام المهدي (عج) في الغيبة الصغرى وأدلاء على منهج آبائه في الغيبة الكبرى، وما أعظم ذلك من فائدة.
ثانياً : حفظ تراث أهل البيت، فلولا وجود العلماء من المتقدمين والمتأخرين لما وصلت إلينا أحاديث أهل البيت ولاندرست آثارهم، ولكنّ علماء الطائفة أجهدوا أنفسهم بجمعها وكتابتها وحفظها جيلاً عن جيل ويداً عن يد حتى وصلت إلينا رغم المحن والأعاصير التي مرت على المذهب.
وأثمرت تلك الجهود الكثير من المصنّفات، حيث كان من أجلّها كتاب الكافي للكليني المتوفى سنة ٣٢٩ للهجرة، ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق المتوفى سنة ٣٨١، والتهذيب والاستبصار للشيخ الطوسي المتوفى سنة ٤٦٠.
ثم جاءت مرحلة أخرى من تدوين الأحاديث وجمعها وحفظها بموسوعات كبيرة، فقد صُنّف في ذلك جامع الأخبار في إيضاح الاستبصار للشيخ عبد اللطيف الهمداني المتوفى سنة ١٠٥٠ للهجرة، والوافي للفيض المتوفى سنة ١٠٩١، ووسائل الشيعة للحر العاملي المتوفى سنة ١١٠٤، وبحار الأنوار للمجلسي المتوفى سنة ١١١٠، والعوالم للشيخ عبد الله البحراني وهو معاصر للشيخ المجلسي، وجامع الأحكام للسيد عبد الله شبر المتوفى سنة ١٢٤٦، ومستدرك الوسائل للميرزا حسين النوري المتوفى سنة ١٣٢٠ وغيرها.
إنّ هذه الجهود العظيمة لم تأتِ بليلةٍ أو ليلتين بل بسنين طوال وأسفار وأخطار، فقد استغرق جمع وتدوين كتاب الكافي الشريف عشرين سنة ( كررها معي : استغرق تأليف كتاب الكافي عشرين سنة) وقد تخللت هذه الفترة الكثير من الأسفار لجمع الأصول والكتب المنتشرة عند رواتها.
أما كتاب البحار فينبئُك عن الجهد العظيم الذي بُذل لأجل إتمامه - خلال عقود من الزمن - كلمات مؤلفه المجلسي (رحمه الله) حيث قال في مقدمته :
" ثمّ بعد الإحاطة بالكتب المتداولة المشهورة، تتبّعت الأصول المعتبرة المهجورة الّتي تركت في الأعصار المتطاولة و الأزمان المتمادية ... فطفقت أسأل عنها في شرق البلاد و غربها حيناً، وألحُّ في الطلب لدى كلّ من أظنّ عنده شيئاً من ذلك و إن كان به ضنينا".
هذا.. ولو أردنا ذكر جلّ تلك الجهود التي بذلها علماء الطائفة في حفظ تراث أهل البيت (ع) لاحتجنا إلى عدة مجلّدات.
ثالثاً : حفظ المذهب والحيلولة دون تحوّل أتباعه إلى غيره، إذ لولا وجود الحوزة العلمية التي أنتجت أجيالاً من العلماء لما بقي أحدٌ على دين آل محمد (ص) ولأصبح الناس - ومنهم صاحب التعليق - عامةً يوالون مخالفي أهل البيت (ع) أو على أديانٍ شتى أو بلا دين، وذلك بشهادة أهل البيت عليهم السلام، كما ورد عن الإمام الهادي (ع) أنه قال : لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل . الاحتجاج والبحار وغيرهما.
وليس بموجة الإلحاد الشيوعي في نهاية الخمسينات ووقوف علماء الحوزة ضدها عنّا ببعيد.
رابعاً : مواقف الدفاع عن الأنفس والأعراض والأوطان، سواءٌ في العراق أو إيران أو لبنان أو غيرها، ما لا يمكن أن تغيب عن أذهان المنصفين، فإنّ تلك المواقف العظيمة الجليلة في الماضي والحاضر لعلماء الشيعة ضدّ الغزاة والمعتدين والمتآمرين لا يمكن أن يتخطّاها التأريخ المنصف دون أن يطرّز صفحاتها بكلمات التبجيل والتعظيم، ولولا تلك الوقفات لأُهلك الحرث والنسل ولأُبيد الشيعة - بل وغيرهم - على أيدي أعدائهم.
ولا أريد أن أُسهب في ذكر تلك المواقف على امتداد التأريخ التي منها التصدي للإنگليز في عام ١٩١٤م التي كان رائدها علماء الحوزة وكذلك ثورة ١٩٢٠ في العراق وفتوى التنباك في إيران التي أفشلت المخطط ضدّ اقتصادها، وفتوى الدفاع الكفائي عام ٢٠١٤ التي لم تجف دماء شهدائها بعدُ، وكان للحوزة العلمية الدور البارز فيها وقد ذهب في سبيل تلبيتها المئات من فضلائها بين شهيد وجريح، ولا أظن آخرها وقوف المرجعية بكل قوة مع المتظاهرين السلميين في عام ٢٠١٩ ضدّ الطغمة الفاسدة.
خامساً : إعانة المحتاجين ومساعدة المرضى ورعاية الأيتام وغير ذلك - بحسب المُكنة - فإنّ المرجعيات الدينية تصرف المليارات مما يردُها من الحقوق الشرعية على مستحقيها فيما قبل ٢٠٠٣ وما بعدها، وبعض المنجزات تُنجز ولا يعلم الناس أنها من الحوزة العلمية، ولعلك لا تعلم أنّ من ضمن تلك الأعمال دعم المرجعية لمركز الأورام السرطانية في النجف الأشرف، وهكذا دعم الكثير من المؤسسات الإنسانية، وتكفُّل الكثير من تكاليف مرضى السرطان الباهظة وعمليات العيون وغير ذلك الكثير من الأبواب.
نعم تلك المعونات لا تغطّي كل الاحتياجات لأنها أكبر من الإمكانيات، في ظلّ تقصير الحكومات.
أكتفي بهذا القدر، وليس هو كل ما يمكن أن يقال في هذه المؤسسة التي من أجلى براهين رعايتها الغيبية بقاؤها كل هذه القرون وسط الكم الهائل من التحديات والهجمات وحملات التشويه والتصفية الجسدية التي لم تتوقف يوماً.
والحمد لله ربّ العالمين
|