نشيد ، قصيدة طويلة ، ملحمة ، ... اي المصطلحات السالفة اكثر دقة لكي يكون توصيفا لاصدار عدنان الصائغ ( نشيد اوروك) ؟
ان كل هذه العنوانات الدالة وغيرها يمكن ان تكون علامة لهذا النص بسبب انفتاحه على عوالم نفسية وقيمية انسانية فضلا عن ان النص كان مشتتا ومحتضنا في الوقت ذاته لكل ما احتفظت به البشرية من رموز واشارات وعلامات ..
هل هو نص مفارق ؟ لم يكن نصا مفارقا بقدر ما كان نصا بلا حدود ، نص عابر للمسافات والحضارات ومخترق للثقافات ، نص انتج في زمن العولمة ليعبر عن ازمنة الطغيان في كل العصور، وقد يتقارب هذا النص من حيث البناء الثيمي مع نص مشهور اخر للناقد والشاعر الانكليزي ت.س. اليوت ( الارض اليباب) فالاسماء والاماكن والرموز والحقب الزمنية فضلا عن تداخل الاحداث وتناوب الانتقال خلال الازمنة من الماضي الى الحاضر ومن المستقبل الى الماضي ، من الخطيئة الاولى التي ارتكبها قابيل الى اخر جرائم طغاة العصر، يضاف الى ذلك ان كل الاشياء المثالية والمادية وبما فيها المتناقضات قد تتشابه وتتماثل وتتشاكل امام قيمة الانسان نفسه انها تمثل السؤال الاول عن اسباب الصراع بين الخير والشر ، فهو نص انساني مفتوح لكل جيل وفي اية بقعة ولكل زمان ، وباختصار انه نص وجودي جسد معاناة الانسان مع الطبيعة والميتافيزيقيا ، فجاء الهذيان نتيجة الصدمة العنيفة التي سببها الطغيان لان الجمجمة بعد الصدمة فقدت توازنها ونظامها الداخلي لذلك سرحت في خيالها شرقا وغربا قديما وحاضرا ، الصدمة تلك هي الافيون الذي استعان به كوليرج لينظم قصيدته (قبلاي خان ) ..
( او هذيانات داخل جمجمة زرقاء لا علاقة لعدنان الصائغ بها )..
يشكل العنوان الفرعي للنص الشفرة او الطلسم الذي من خلال معرفته يمكن ان يدخل القارئ المغامر الى جسد النص , فهو بمثابة الباب الحصين للقلعة ، او هو باب السور الذي يقف عاليا لحماية النص من اساءة الفهم الساذج ، هو باب الحصن الذي ضاع مفتاحه وعلى القارئ ان يفك الشفرة ليفوز بمطالعة ما سيدهشه في داخل النص ، العنوان ليس عتبة بل هو النص الموازي للعمل نفسه وكلما شحن العنوان بدلالات وعلامات موحية استطاع ان يغري القارئ بقبول المغامرة ، فالعنوان هو النص المختزل ، وهو اللافتة الاولى التي يتشكل عند رؤيتها افق التوقع لدى القارئ ، فالإيذان للقارئ بالدخول وانسحاب المؤلف من جسد النص كفيل بثراء التجربة الابداعية للنصوص لا بل ان النصوص ستعيش ويكتب لها الخلود كلما بايعت القارئ واستسلمت لسلطته .
وتأتي شعرية العنوان في ملحمة اوروك من تذييل الشاعر بان النص ليس له علاقة بـ ( عدنان الصائغ) موكلا فتح باب النص الموصد الى القارئ ليخوض تجربته القرائية ، وهذا الفعل يدل على وعي الشاعر المسبق بالقارئ ، حيث لا وجود لاي نص ما لم يكن هناك متلق يمارس عملية القراءة معه ، وهذا الفعل وعي مبكر من الشاعر بضرورة فتح شفرة النص لممارسة لعبة التاويل بين المؤلف والقارئ .. وهو ايضا رفد للنص بشحنة اضافية من التكثيف الدلالي الذي سيثير فضول القارئ لدى ممارسته لعملية القراءة لاحقا ، لقد اعترف الشاعر بان نصه عبارة عن هذيان وليس لـ (عدنان) الشخص العادي اية صلة به ،وهذا يشكل خطوة ثانية نحو فهم افضل للنص ، لان النص محكوم بلحظة انتاجه وظروفه المتزامنة ، لا بل هو نتاج ثقافة صنعت المؤلف ونصه وما المؤلف الا قارئ ومتلق من جهة اخرى يعيد انتاج ما قد تلقاه عن طريق هذه الثقافة , فالنص وبمجرد ما ان ينتهي الكاتب منه يصبح ملكا للذات القارئة ، اي يتحول النص من فضاء اليات العمل الابداعي الى رحاب الافق الجمالي حيث الذات القارئة ، وانطلاقا من ذلك فان هناك نصوصا لا يمكن ان تكتب الا مرة واحدة ولكن يمكن ان تقرا مئات المرات بل تتلون النصوص وتتعدد بتعدد القراءات لذلك يمكن ان يكون المؤلف نفسه – فيما بعد - ذاتا قارئة ، بدلالة ان اي كاتب لا يستطيع ان ينتج نصا مشابها تماما لنص قد كتبه سابقا ، ويمكن ان يكون تعدد القراءات لنص محدد في ازمان مختلفة ولحظات تاريخية متنوعة هو الفارق بين النص المفعم بروح الابداع والنص الذي ليس له الا شكل الحروف وترتيب الكلمات .وتأسيسا على ذلك فان ملحمة اوروك الشعرية لا يمكن ان تكتب مرة اخرى .
لقد استطاع الصائغ ان يعبر بنصه الى افق قرائي متعدد بما احتواه من تداخل بين الشي وضده ، الشعر والنثر ، الحسن والقبيح ، الشهواني و الصوفي ، الكتابي والشفوي ، ( المحافل والمزابل ) .. وما يبدو في العنوان من تضاد هو في حقيقة امره انسجام تام ففي النص المفارق تتواءم المتضادات وتتصالح المتناقضات وهذا ما يبرهن على صدق الشاعرية وتفردها باسلوب مختلف ..
ان النص استنزف كل الامكانات والطاقات الشعرية للصائغ حتى ظهر بذلك الشكل الملحمي المميز والذي يصعب ان يجد القارئ له مثيلا في اعماله الاخرى التي صدرت فيما بعد على الرغم من مرور اكثر من عقد ونصف على صدور نشيد اوروك .
ويبقى نشيد اوروك قابلا لقراءات كثيرة لانه نص مكتنز بقيمه الفنية الاسلوبية وغيرها والانسانية واشاراته التاريخية والاسطورية ، وما يميزه عن غيره من النصوص التي تعج بمثل هذه المرجعيات هو: ان الصائغ جعل الانسان محورا تدور حول فلكه كل المرجعيات الاخرى |