المقدمة
هل انت معي يا صاحبي الكريم بعد أنْ قضينا وقتاً طويلاً مع الشعر وعلمه العروضي ؟!
سأصارحك القول مرّة ثانية , رضيت أم أبيت ! أنّّ العرب اهتموا إهتماماً بالغاً بالشعر , واعتبروا موسيقاه - وأعني الوزن والقافية - هي الأساس الذي يُبنى عليه شعرهم , وما وجد الشعر إلا للحدو والغناء , وبث الأحاسيس , وسهولة الحفظ , ثم تطور مفهوماً , وتشعب دروباً , ولا ندري أين سيرسو الذوق العربي , ولكن بالتأكيد سيبقى الشعر العمودي عموداً شامخاً , المهم قال حسانهم بن ثابت ذات يوم :
تغنى بالشعر ,إمّا كنتَ قائلهُ إنَّ الغناءَ لهذا الشعر ِ مضمارُ
وإنّ الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 173 هـ / 789م),ومن سار على رأيه من علماء العروض " يعرفون الشعر بأنه الكلام الموزون على مقاييس العرب , المقصود به الوزن المرتبط بمعنى وقافية "(1) , وعرفه قدامة بن جعفر (ت 337هـ / 948م ) , في كتابه الشهير ( نقد الشعر ) , بأنه " قول موزون مقفى , يدل على معنى "(2) , وذهب الزمخشري في ( قسطاطه ) الى ذكر "إنّ حد الشعر لفظ موزون مقفى يدل على معنى , لهذه أربعة أشياء , اللفظ , المعنى , الوزن , القافية " (3), وابن رشيق يشبه اللفظ بالدر الذي يفقد جماله ورونقه , إذا لم ينظم , وكذلك اللفظ إذا كان منثورا يبدد في الأسماع ( لا يحفظ ), وتدحرج عن الطباع , ولم يستقر منه إلا المفرطة في اللطف (4) , والمعنى لا أرى يحتاج إلى دليل , وابن مالك يقول في مستهل ألفيته " كلامنا لفظ مفيد كاستقم " , ولكن ( قدامة) في (نقده) , يرى أنّ المعنى يجب أن يكون منصباً للغرض المقصود , والمقاصد عديدة لا حصر لها ,ومنها المديح , والهجاء , والنسيب , والوصف ...(5) , ولعلك تدرك معي أنّ القصيدة مشتقة من قصد قصدا...
, وكما مرّ عليك في الحلقات السابقة أنّ (علم العروض ) هو ميزان الشعر , يعرف به صحيحه من مكسوره , كما أنّه يبحث في أوزان بحوره بتمامها, ومجزوءاتها , ومشطوراتها , ومنهوكاتها ,ودراسة الأركان الرئيسية , وتفعيلاتها الأساسية , وما يطرأ عليها من الزحافات والعلل , والضرورات الشعرية المسموح بها للشاعر , أمّا ( علم القوافي ) سنأتي عليه , وربما تسأل هل الشعر هو علما العروض والقوافي وكفى ؟ أقول لك كلا , وألف كلا !! ولكن بدونهما لايمكن أن نطلق على الكلام شعراً بالمفهوم العربي الأصيل والعريق , لاريب يخضع الشعر لمعايير الصيغ البلاغية , والقواعد النحوية والسلامة اللغوية , والمعاني السامية , والعواطف الجياشة , وسعة الخيال , ورقة الوجدان :
آلا يا طائر الفردو س ِ, إنّ الشعرَ وجدانُ
لذلك نحن لا نعد مثلا ألفية ابن مالك , ولا أرجوزة الخوارزمي في الرياضيات , ولا الكثير من الملاحم السردية الخالية من العواطف والأحاسيس شعراً, ونميز بين الشاعر والناظم ,أمّا المعايير التي ذكرتها يمكن أن تكتسي بها الفنون النثرية , ولو أنّ بعضها دون المستوى الشعري الرفيع.ويبقى على كل حال الشعر أرفع الفنون الأدبية , بل الأنسانية ,
ماهي القافية :
القافية بمعناها العام المتابعة , وهي من مادة ( قفا) , والألف أصلها واو , يقول الأزهري : القفا مقصور مؤخرة العنق , أما ابن سيده , فالقفا عنده وراء العنق , وقال أبو عبيدة : يعني بالقافية القفا , وقافية كلّ شيء : آخره , ومنه قافية بيت الشعر ,وابن الأعرابي : يقال : قفوت فلاناً اتبعت أثره , وفي نوادر الإعراب : قفا أثره أي تبعه ,ويتابع ابن منظور في (لسانه ) , والقافية من الشعر الذي يقفو البيت , وسميت قافية لأنها تقفو البيت , وفي الصحاح : لأن بعضها يتبع أثر بعض (5) , فإذن نستنتج مما أورده (ابن منظور ) أنّ القافية إمّا تتبع البيت , فتقع في آخره , أو تتبع بقية قوافي القصيدة , وهنالك رأي ثالث أن الشاعر هو الذي يقفوها أي يتبعها (6) , بينما ابن رشيق يراها بمعنى (مقفوة ) (7) خارجاً بها الى المجاز المرسل على ضرب ذكر اسم الفاعل , وإرادة اسم المفعول , و يؤيد هذا الرأي أن القافية في اللغة هي مؤخرة العنق (8) , وهذا ما أشرنا إليه سالفاً .
والعرب توسعوا في تحديد هذه القافية , وربما أول من ضمن كلمة ( القافية ) في شعره , هو مالك بن فهم الأزدي , عندما رماه ابنه سليمة بالنبل , فأصابه , فقال :
جزاني لا جزاه الله خيراً سليمة أنّه شرٌ جزاني
فكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية ٍ هجاني
أعلمه الرماية كلَ يومٍ فلما اشتد ساعده رمانيٍ (9)
أو حشر البيت الأوسط من بعد بين بيتي هذا الـ ( مالك ), المهم هنا (القافية ) تعني ( القصيدة ) , وابن جني لا يمانع في هذا الأستعمال , ويستشهد بقول الخنساء :
وقافية مثل حد السنا ن تبقى ويهلك من قالها
وقد تستعمل مجازاً للبيت الواحد , كقول حسان :
فنحكم بالقوافي من هجانا ونضرب حين تختلط الدماءُ
وذهب الأخفش إلى أنّه أراد هنا بالقوافي الأبيات (10) , وهذاالأخفش نفسه (11) , رأى أن القافية هي الكلمة الأخيرة من البيت , ويستدل على ذلك بتأنيثها , أمّا لو أريد بها الحرف ( الروي ) , فالحرف مذكر, وإن العرب يؤنثون المذكر! (12), وسنفند رأيه في الحلقة الثانية , عندما نأتي على اللفظ المتكاوس للقافية , أمّا معظم الكوفيين , مثل قطرب والفراء وابن كيسان وثعلب وغيرهم , يعتبرون حرف الروي هو القافية (13) , وتبعهم ابن عبد ربّه الأندلسي في (عقده الفريد) بقوله " القافية حرف الروي بيني- كذا - (ربما يُبنى) عليه الشعر ولا بد من تكريره " (14) , في حين صاحب ( اللسان) يذكر أن ابن كيسان وأبا موسى الحامض يذهبان إلى أن ما تكرر في آخر البيت من حروف وحركات هي القافية , ولم يحددا مقصودهما ! ولكن قول الخليل الفراهيدي هو الأصح والأصوب , وسنسير عليه في بحثنا , وعنده القافية : من آخر البيت إلى أول ساكن يليه ,مع المتحرك الذي قبل الساكن , بمعنى آخر من المحرك الأول قبل الساكنين الأخيرين في نهاية البيت , والعرب تقف على ساكن ! فقول امرىء القيس في معلقته :
مكرٍّ مفرٍّّّّّّّ مقبل ٍ مدبر ٍ معاً كجلمودِ صخر ٍحطـّّّّّّّّّّهُ السيلُ من عل ِ
" القافية من هذا البيت عند الخليل " مِنْ عَل ِ" وعند الأخفش "عَلِِ ِ " وحَده فقِس على هذا جميعه " (15)
التبريزي أراد فيما سبق أن يميز بين مذهبي الفراهيدي والأخفش في تعريفهما للقافية , سأكتب الفافية الفراهيدية عروضياً (مِن عَلِي ) بإشباع حركة الكسرة الأخيرة (/ه//ه) , هنالك خمسة أحرف الأول متحرك (م ِ) ثم الساكن الأول (نْ) , ومن بعد (عَ) ويليها (ل ِ) وأخيرا (يْ) حرف المد الساكن بعد الإشباع , وحسب تقطيع العروضيين (مِنْ ) سبب خفيف ,و( علي ) وتد مجموع , وبالعروض الرقمي (2 3) , وبالنظام المقطعي (- ب -) , أما ما ذهب إليه الأخفش غير دقيق , لذلك نكف عنه , وكلمة ( علي) بعد إشباعها وتد مجموع , لا يستوفي شروط قوافي القصيدة كلها .
دراسة علم القوافي ضرورة ملحة لتفهم الشعر العربي ,وسنستشهد بقولين , أحدهما قديم لأبن سينا , فمن تعريفه للشعر يقول , بأنه أقوال " متشابهة حروف الخواتم, وقولنا متشابهة حروف الخواتم ليكون فرقاً بين المقفى وغير المقفى , فلا يكاد يسمى عندنا بالشعر ما ليس بمقفى " (16) , والثاني معاصر للشاعرة الشهيرة الرائدة نازك الملائكة , فبعد أن أوسمت القافية بـ ( الألهة المغرورة ) , وزعمت أنها أعاقت ظهور الملاحم في الشعر العربي , وأنزلت به الخسائر الفادحة نتيجة التكلف والرتابة,وذلك في ( شظاياها ورمادها) !! وإذا بها إنقلبت على رأيها بعد ثلاثة عشر عاماً لتقرّ " أمّا اعتقاد الشاعر أنّ القافية تكبح جماح الطاقة المبدعة عنده خلال نظم القصيدة , فقد ثبت لي , وأنا أراقب نفسي خلال بزوغ القصيدة في هذه السنوات الأخيرة أن ذلك اعتقاد غالط ولا أساس له , ذلك أن الفافية على عكس ما يتوهمون , تفتح للشاعر أبواب معان مبتكرة لم يكن تخطر على باله مطلقاً , ومن الوهم كذلك ما يظنونه من أن القافية تجعل الشاعر يقع في معان متكلفة منظومة نظماً مصطنعاً , فالتقفية على العكس مفتاح سحري يقودنا إلى المناطق غير الواعية من العقل الباطن للشاعر " (17) , هذا كلام رائدة ما كان يسمى بالشعر الحر ( شعر التفعيلة ) , هل تعقل معناه أم مازال في عقلك شك أو بعض شك ؟!! العلم يتطور , والفن يتجذر , لا يستطيع أحد في الدنيا أن يشطب على المتنبي وشكسبير والخيام وطاغور ودافنشي وبيكاسو وأنجلو والجواهري وأحمد شوقي بحجة التطور!! الأعمال الفنية كالتحف الأثرية كلما تعتق تزداد جمالا ورونقاً وغلاء , وهذا لا يعني أن للفنون حدود , بل هي أكثر اتساعاً من العلوم , ولكن لا يلغي جديدها قديمها أو يقلل من شأنها , وشأننا أن نحيل المكتوب إلى أجل مكتوب !! شكراً وعذرا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع : النغم الشعري عند العرب : د .عبد العزيز شرف , و د.محمد عبد المنعم الخفاجي ص 12 - دار المريخ - الرياض - بلا .
(2) نقد الشعر : قدامة بن جعفر , ص64 تحقيق محمد عبد المنعم الخفاجي - دار الكتب العلمية - بيروت - , الموسوعة الشاملة 1 /1 , موقع إلكتروني ,
(3) القسطاط في علم القوافي : الزمخشري ص 3 , مطبوع من قبل :
al - mostafa.com
( 4 ) العمدة في محاسن الشعر وآدابه : ابن رشيق القيرواني - ج1 ص 73 - تحقيق الدكتور محمد قرقزان - 1988 بيروت
نقد الشعر : ص 91 المصدر السابق .
(5) لسان العرب : ابن منظور ص 165 - 166 ج 12 ,2003 - دار صادر - بيروت.
(6) فن التفطيع الشعري والقافية : د . صفاء خلوصي ص 214 - ط 6 - 1987 - دار الشؤون الثقافية
(7) البنية الإيفاعية في شعر الجواهري : عبد نور داود عمران ص 171- 172 رسالة دكتوراه - جامعة الكوفة - كلية الآداب - قسم اللغة العربية , نقلا عن : العمدة :ابن رشيق القيرواني ج1 ص 154- .
(8) المصدر نفسه: عن عدة مصادر - راجع
(9)راجع : تاريخ الحيرة ...الكوفة ...الأطوار المبكرة للنجف الأشرف : كريم مرزة الاسدي ص ص 22 , ط1 النجف الأشرف 2007 , البيت الأوسط لم يدون , ولكن يروى مع الأبيات نفسها , البيتان الأول والأخير ذكرهما الدكتور جواد علي في (المفصل ) ج3 , ص 178 , 1993 ,الطبعة الثالثة.
(10) لسان العرب : ص 167 المصدر السابق .
(11) وهو الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة , تلميذ سيبويه , وتدارك ( البحر المتدارك ) عل الخليل , توفي على الأغلب 215 هـ .
(12) لسان العرب : المصدر نفسه.
(13) راجع : البنية الإيقاعية : ص 173 مصدر سابق .
(14)راجع : النغم الشعري عند العرب : ص 231 مصدر سابق
(15) كتاب الكافي في العروض والقوافي : الخطيب التبريزي ص 149 , ط 3 -1994 - مكتبة الخانجي - القاهرة.
(16) راجع : جوامع علم الموسيقى : ابن سينا ص 122 - 123 , تحقيق زكريا يوسف - الأرادة العامة للثقافة , و ( البنية الإيقاعية ...) ص 172 مصدر سابق ,
(17 ) سيكولوجيا الشعر ومقالات أخرى : نازك الملائكة ص 61 - الأدارة العامة للثقافة -1993 - بغداد , البنية الإيقاعية : ص 177 - مصدر سابق |