المبعثُ النَبَوِيُّ الشَّريفُ لَم يَكُن حَدَثاً تَأريخِيِّاً مُرتَبِطاً بِنُبُوَّةِ النَبِيِّ ؛ لأنَّ أمرَ النبوّةِ كان محسوماً في عالَمِ المَلَكُوتِ ؛ فالنَّبِيُّ كانَ نَبِيَّاً وادمُ بين الماء والطين ، كما نقل ابنُ شهراشوب في المناقب ، ج1 ، ص 214 . وفي مسند احمد بن حنبل ، ج4 ، ص 66 ، ( كنتُ نبياً وادمُ بينَ الروحِ والجسد) .
البعثةُ النبويّةُ حَدَثٌ مرتبطٌ بالرسالةِ ، مرتبطٌ بالناس ، فالرسالةُ ارتبطت بالبلاغ ؛ لانَّ البلاغَ امرٌ مرتبطٌ بالناسِ ، يقول اللهُ تعالى:
( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67). ( المائدة : الاية : 67) . وفي قوله تعالى :
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92). ( المائدة : الاية : 92) . وفي قوله تعالى :
( مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99). (المائدة : الاية : 99).وفي قوله تعالى : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) . (النحل : الاية : 35).
وكذلك البعثة النبوية امرٌ مرتبطٌ بالناس ؛ لانها مرتبطة برسالة النبي (ص) ، وليست مرتبطة بالنبوة . يقول الله تعالى :
( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2). ( الجمعة : الاية : 2 ) . وقوله تعالى :
( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (164). ( ال عمران : الاية : 164). وقوله تعالى : ( وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَٰذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) .
(الفرقان : الاية : 41) . وايضاً في قوله تعالى :(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129). (البقرة : الاية : 129) .
عظمةُ المبعثِ النبويِّ
---------------------
نستطيع ان نُدرِكَ عظمةَ البعثةِ النبويّةِ الشريفة ، اذا قرأنا الواقعَ الجاهليَّ المتخلفّ ، والنُقلة الحضارية التي احدثها رسول الله (ص) ، وعملية الانقاذ التي قام بها (ص) . ولنستمع الى ماقالته الزهراء (ع) في وصف هذا الواقع لنرَ عظمةّ النبيّ الخاتمّ . تقول الوهراء (ع) :
(فَرَأى الأُمَمَ فِرَقاً في أدْيانِها، عُكَّفاً على نيرانِها، عابِدَةً لأَوثانِها، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفانِها. فَأَنارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله ظُلَمَها، وكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَها، وَجَلّى عَنِ الأَبْصارِ غُمَمَها، وَقَامَ في النّاسِ بِالهِدايَةِ، وأنقَذَهُمْ مِنَ الغَوايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ العَمايَةِ، وهَداهُمْ إلى الدّينِ القَويمِ، وَدَعاهُمْ إلى الطَّريقِ المُستَقيمِ) .
خاتميةُ الكَمال
-------------
كما ان ادم (ع ) لم يكن الانسانَ الاول كما جاء في الرواية عن الامام الباقر (ع) : ( قد انقضى قبل ادم ( الذي هو ابونا) الف الف ادم).
ادمُ (ع) الذي تحدثَ عنه القرانُ الكريم ليسَ هو الاولُّ في الخلق اذ كان قبله ادميّون ... ولكنَّ ادم الذي تحدثَ عنه القران الكريم ، وعلمه اللهُ الاسماء كلها ، واسجدَ لهُ ملائكتهُ ، كانت له اوليَّة ٌ اخرى ، هي غير اوليّة الخلق ، سميتها اولية الكمال . فادم ليس هو الانسان الاول في الخلق ، ولكنه الانسان الاولَ الكامل.
ولعل الملائكة اشاروا الى تجربة الانسان الاول غير الكامل الذي عاث في الارض فسادا ، بقولهم : (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31). ( البقرة : الايات : (30-31) .
فالملائكةُ قاست ادم الكامل على ادم غير الكامل الذي عاث في الارض فسادا وسفك الدماء ، وطرحت استحقاقها لخلافة الله على اساس التسبيح بحمد الله والتقديس له ، ولكنَّ الله اعلمهم ان الاستحقاق لايكون على اساس التقديس ، بل على اساس العلم.
النَّشأَةُ الارضيَّةُ مُؤَهلةٌ لعمارةِ الارض
------------------------------------
هناك ارتباط بين كون الانسان كائنا ارضياً خلق من الارض ، وتشكل منها ، وبين عمارة الارض . يقول الله تعالى : (وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61). ( هود : الاية : 61).
فالطبيعة الترابية هي المؤهلة لعمارة الارض لا طبيعة الملائكة النورية ، ولاطبيعة الجن النارية .
اوليّة الكمال وخاتميتُهُ
--------------------
كما ان ادم (ع) الاول في الكمال ، كان الرسول(ص) الخاتمَ في الكمال ، فقد جمع كل كمالات من قبله وزاد عليها . حتى اسمه (ص) ، كان مجمعا للمحامد كلها . خاتميةُ الكمال تعني ان لايأتيَ كاملٌ بعدهُ يبزُّهُ في كمالاته ، بل الكاملين بعده يستضيئون بنوره ، ويهتدون بهداه . وهذه خاتمةُ كل عظمة حازها المصطفى (ص) بجدارةٍ واستحقاقٍ .
كان هو الخاتم ، وشريعته هي الخاتمة ، حتى ان عيسى بن مريم وهو رسول من اولي العزم يأتي في اخر الزمان تابعا لشريعة المصطفى ، ويصلي مأموماً بخاتمِ الاولياء .
سلامُ عليك يارسول الله ، وانت تحوز العظمة من جميع اطرافها . سلامُ عليك وانت في عليائك ، وفي مقامك الذي لايصله بشرٌ ولامَلَكٌ مقرب ولا ايُّ كائنٍ في هذا الوجود.
|