• الموقع : كتابات في الميزان .
        • القسم الرئيسي : ثقافات .
              • القسم الفرعي : ثقافات .
                    • الموضوع : لوحة وطن  .
                          • الكاتب : عبد الله الميالي .

لوحة وطن 

على طول الجسر الممتد بين الأعظمية والكاظمية زرع القدر زهوره السود الغامضة تتربص بالزائرين القابضين بجمرة عقيدتهم, ملعون هذا الجسر الذي ارتضى أن يكون جلاداً يلسع ضيوفه, وملعون هذا النهر الذي يأكل أهله, خيوط الشمس تنسج رداء النور وترميه على دجلة, في يوم أعلن تمرده على باقي الأيام ليحصد ألف روح بريئة, بغداد تتكأ على عصا والخنساء ترتدي السواد وتستعد لتندب ألف صخرٍ, الموت يتسكع متنكراً في رداء أزرق, مدّ لسانه يتذوّق لحم فريسته, الجثث مرمية تحت جسر الأئمة تنتظر من يسدل عليها الرداء, الأرواح اشترت لها أجنحة وتسابقت في التحليق حيث الشمس, قبل يوم كان هؤلاء يملؤون الدنيا ضجيجاً بذهابهم وإيابهم وصراخهم وابتساماتهم وأكلهم وشربهم ولعبهم مع أطفالهم, المارد الأزرق مثقل بأشعة شمس آب (اللهاب) , وقد اعتادا أن يشكّلا ثنائية العشق السرمدي منذ ملايين السنين, الطائفية كشّرتْ عن أنيابها, فهناك من ابتلعتهم وسقطوا في قعرها المظلم, وهناك من غصّت بهم فكانوا شجاً في حلقها, الفتى ذو العشرين ربيعاً كان منهم, وجه مشرق وضّاح لم يختط شاربه بعد, وعينان حادتان كعيني صقر, وشعر أسود فاحم, كان أشجعهم, امتلك زمام المبادرة وتمرّد على طائفيته, ليس لديه ما يخسره وهو القادر أن يُخرج جناحيه ويُحلّق حيث مطلع الشمس, رأى انبلاج النور عند الأفق, كان ابن اللحظة, حين تمخضت الضوضاء عن أصوات وصرخات استغاثة, صدى الاستغاثة يضج في أذنيه, تهيأ كعرّيسٍ لاستقبال المنية التي تُرهب وتُوجع القلوب, فالموت وسط الناس رحمة, فليمت ميتة الأبطال في زمن عزّت الأرواح على أصحابها .. شمّر عن ساعديه وارتمى في النهر بيته الحقيقي يبحث عن أخوة له ابتلعتهم أمواج النهر دون أي معنى ودون أي سبب, إيمانه الحقيقي بقيم الإنسانية جعله يُصارع الموت لأجل الحياة, من أين أتى بكل هذه الشجاعة؟ فالتكيّف مع جثث الموتى لا يُطاق لأنه فوق قدرة بني البشر, كلما هوى نحو القاع حيث الظلمة اللامتناهية كان هناك بصيص ضوء في الأعلى يجذبه للصعود, لا يدري كم عدد الذين أنقذهم من الغرق, ستة .. سبعة .. ثمانية, ليس لديه الوقت للعد, ولا يهمه أن يعرف, هو في سِباقٍ مع الزمن, ولا مجال أن يسرق منه لحظة لجرعة شهيق زائدة يتأكد معها أنه ما زال على قيد الحياة, كلُّ دقيقة تمضي يعني أرواحاً آثرت أن تُحلق في صفحة السماء, حينما تشتبك يداه بطفل يحاول إنقاذه, يمر على خاطره شقيقه الصغير وضحكاته البريئة حين يلاعبه, ولكن هل بقيت له ذاكرة لكي يستعيدها؟, وقد بلغت القلوب الحناجر, فالمارد الأزرق غسل ذاكرته, وهو واقف بين فكيه ينتظر لحظة أن يطبقهما عليه, السِباحة في دجلة ليست عصية على مثله مهما كانت الظروف، فهو الحاصد على جوائزها مرات عِدّة, هذه المرة تختلف، ليست سِباحة أو ترفيه أو مسابقة, إنها رحلة الموت من أجل الحياة, لَمْلَمَ آيات قرآنية تبعثرت في ذاكرته, رتّلَ بعضها, اكتسحته قشعريرة باردة سرت في جميع مفاصله, تلاشى النور شيئاً فشيئاً حين انقطع الخيط الأبيض من ناظره, تلعثمت قبضتاه عندما اشتدت قوى الجاذبية, استسلم لنداء القاع أسوة بمن سبقوه, ضاع شبحه في تلافيف العتمة, غاب النور وانطفأ الضياء, يطفو على سطح الماء كجذع شجرة لا حياة فيه, تستقبله أمه بين ذراعيها وقد اختلطت مشاعرها بين حزن وفرح, تجهش في نحيب مكتوم وتذرف عليه دموع الأم الولهى بفقد فلذة كبدها, وقلبها يخفق لموقف قلّ نظيره في زمن صعب, مات الفتى العشريني مُجهداً وهو يحاول أن يُنقذ ما يستطيع إنقاذه, مات ليحيى أبداً, في زمنٍ أكثر الأحياء فيه موتى! 
بَنى "عُثمان العُبيدي" في كل قلبٍ مرقد له, بعد أن جعل من قلبه خارطة وطن.




  • المصدر : http://www.kitabat.info/subject.php?id=132267
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2019 / 04 / 05
  • تاريخ الطباعة : 2025 / 03 / 15