البحر السادس عشر - الخفيف :
قالوا ما قالوا في أسباب خفته الخفيفة , سماه (الخليل) (الخفيف ) , لأنـّه أخف السباعيات , وقيل لأنَّ حركة الوتد المفروق الأخيرة اتصلت بحركات الأسباب التي تلته فخفت , وذكروا لخفته ذوقاً وتقطيعا , إذ تتوالى فيه ثلاثة أسباب ,, والأسباب أخف من الأوتاد (1) , وبالتالي تراه جميلاً في ذوقه , طرياً عند سمعه , سهلاً لدى تقطيعه , خفيفاًعلى الروح في جملته , أشتهر منذ العصر الجاهلي بمعلقة ( الحارث بن حلزة اليشكري) :
آذنتنا ببينها أسماءُ ربَّ ثاو ٍيُملُّ منهُ الثواءُ
وذاعت شهرته من بعد حتى أنّه طغى على معظم البحور لدى بعض الشعراء , وتفنن في تنوع أعاريضه وأضربه من تفنن حتى استنفدت كل علله وزحافاته الممكنة , تفعيلاته الأساسية كما وردت في دائرته (المشتبه ) , مركبة من تفعيلة الرمل (فاعلاتن ) مكررة مرتين , و بينهما تفعيلة واحدة للرجز- ذات الوتد المفروق - (مستفعَ لن) في الشطر الواحد :
فاعلاتن مستفعَ لن فاعلاتن فاعلاتن مستفعَ لن فاعلاتن ( التام - ست تفعيلات)
ويأتي هذا الوزن مجزوءا (فاعلاتن مستفعَ لن) مكررة مرتين (أربع تفعيلات) , ومشطورا ( فاعلاتن مستفعَ لن فاعلاتن) (ثلاث تفعيلات) , ونادرا منهوكاً (فاعلاتن مستفعَ لن) (تفعيلتان) , , أما الزحافات والعلل التي تعتريه ,نبدأ بـزحافات (فاعلاتن) , إذ يصيبها : الخبن فتصبح (فعلاتن) وهو حسن , والكف فتصير (فاعلاتُ) وهو صالح ,والشكل يحذف ألفها والنون فتصبح (فعلاتُ) وهو قبيح .
ثم زحافات (مستفعَ لن) ,ويعتريها : الخبن فتصبح (مفاعلن) وهو حسن , والكف فتصير(مستفعَ لُ) وهو صالح , والشكل تبقى (متفعَ لُ) بعد حذف سينها والنون ,فتتحول إلى (مفاعلُ) وهو قبيح. ولا يجوز فيها الطي , وإن أجازه ابن رشيق (2) في عمدته , لأن فاء (مستفع َلن) تقع وسط الوتد المفروق , والأوتاد لا تصيبها الزحافات الا الخرم خاصة (3) , ويجوز على (فاعلاتن ) في الضرب (التشعيث ) , و(التشعيث) يعني حذف عينها , فتبقى (فالاتن) , وتتحول عروضيا الى (مفعولن) , و(التشعيث ) علـّة تجري مجرى الزحاف , لأنها لا تلزم كلّ أبيات القصيدة بها ,وتجري على تفعيلتيه (فاعلاتن ) و (مستفعَ لن) المعاقبة ,وذكرناها في الحلقة السابقة , أي أن (النون) فيهما تعاقب (الساكن) من الجزء بعدها, أيهما ما حذذف ثبت صاحبه (4) .
أمّّا العلل سنذكرها تباعاً مع عرض أعاريضه وأضربه كالتالي :
1 - العروضة الأولى صحيحة وضربها صحيح مثلها :
وهو أجمل إيقاعات الخفيف, وأكثرها شيوعاً , وقد يدخل ضربه التشعيث من غير لزوم , مثال الحشو الصحيح ,والعروضة الصحيحة , والضرب الصحيح , إليك قول الأعشى ( ميون بن قيس), ويتضمن مواضع قديمة قدمه في سواد بغداد أو واليمامة , وعالية نجد :
حلَّ أهلي ما بين دُرنا فبادوا لي وحلـّتْ علوية ٌ بالسّخال ِ
حل لأهـ لي ما بي ندر نا فبا دو لي وحلْ لتْ علْ ويْ يتن بلْ سخا لي (5)
فاعلاتن مستفعَ لن فاعلاتن فاعلاتن مستفعَ لن فاعلاتن
وإذا أردت الحشو مزحوفا , فهذا قول ابن زيدون :
سرّنا عيشنا الرّقيقُ الحواشي لو يدومُ السّرورُ للمستديم ِ
سرْرناعيْ شَ نرْرقيْ قلْ حواشيِ لويدومسْ سَ رورللْ مسْ تدي مي (6)
فاعلاتن مَ تفـْعَ لنْ فاعلاتن فاعلاتن مَ تفـْعَ لن فاعلاتن
كما ترى ( مستفعَ لن) في الشطرين مخبونة , أي حذفت سينها الساكنة , وكتبتها مجزّأة ليتبين الوتد المفروق. وذكرنا قد يأتي الضرب (مشعثاً) , ومثاله :
ليس من ماتَ فاستراحَ بميتٍ إنّـّما الميتُ ميّتُ الأحياءِ
ليْ سمنْ ما تَفسْ ترا حبمي ْ تن إنْ نمل ميْ تميْ يتلْ أحْيائي (7)
فاعلاتن متفـْعلن فعلاتن فاعلاتن متفـْعلن مفعولن
كما ترى (مستفعلن) في الشطرين أصابها الخبن , واصبحت ( متفـْعلن) , والعروضة خبنت أيضاً فصارت (فعلاتن) , والضرب قد شُعّث , فولدت (مفعولن) ذات الأسباب الثلاثة ,وقبلها سبب , فهذه أربعة , بمعنى أربعة مقاطع طويلة ( - - - - ), فالنهاية ثقيلة " ولذلك فهو إيقاع الغزل والرثاء وتقل فيه الحماسة والفخر" (8) .
والضرب الثاني لهذه العروضة الصحيحة محذوف (فاعلن) , أي سقط السبب الأخير من التفعيلة (فاعلاتن ), فبقت (فاعلا) , وحولت إلى (فاعلن) , وهو نادر , عدّه المعري مهجوراً , وأنقل إليك هذين البيتين من شعر ابن المعتز مثالاً , وأقطّع لك الأول منهما :
قلْ لغصن البان الذي يتثنـّى تحتَ بدر الدّجى وفوق النـّقا
رمتُ كتمانَ ما بقلبي فنمـّتْ زفراتٌ تـُفشي حديثَ الهوى
قلْ لغصْ نلْ با نلْ لذي يتثنْ نى تحْ تبد ردْ دجى وفو قنْ نقا
فاعلاتن مستفعلن فعلاتن فاعلاتن متفـْعلن فاعلن
صحيحة صحيحة مخبونة صحيحة مخبونة محذوف
ونادرا ما يخبن (المحذوف) في هذا (الضرب ) , فتتحول (فاعلن) إلى (فعِلن) , كما في بيتي عمر بن عبد العزيز , ونقطـّع أولهما :
إنـّما النـّــاسُ ظاعنٌ ومقيمٌ فالذي بـــانَ للمقيم عظهْ
ومن الناس مَنْ يعيشُ شقياً جيفة ً الليل ِغافلَ اليقظهْ (9)
إنْ نمنْ نا سظاعنن ومقيْ من فلْ لذي با نللْ مقيْ معظهْ
فاعلاتن متفـْعلن فعلاتن فاعلاتن متفـْعلن فعِلن
صحيحة مخبونة مخبونة صحيحة مخبونة محذوف مخبون
2 - العروضة الثانية محذوفة (فاعلن) ولها ضرب واحد مثلها محذوف , مثاله :
إنْ قدرنا يوماً على عامر ٍ نمتثلْ منهُ أو ندعهُ لكمْ (10)
إنْ قدرْْنا يومن على عامرن نمْ تثلْ منْ هوأوْ ندعْ هولكمْ
فاعلاتن مستفعلن فاعلن فاعلاتن مستفعلن فاعلن
صحيحة صحيحة محذوفة صحيحة مستفعلن محذوف
و(فاعلن) تأتي مخبونة معظم الأحيان , فتغدو (فعِلن) , وإليك مطلع قصيدة لجميل بتينة :
رسمُ دار ٍ وقفتُ في ظللهْ كدتُ أقضي الغداة من جللهْ
رسْ مدا رن وقفـْتفي ظللهْ كدْ تأقْ ضلْ غدا تمنْ جللهْ
فاعلاتن متفـْعلن فعِلن فاعلاتن متفـْعلن فعِلن
ولصفي الدين الحلي قصيدة جميلة راقصة , خفيفة النغم , رقيقة الحرس , على شاكلة قصيدة (الجميل) السابقة , خذ رجاءً :
زارني والصّبـاحُ قد سفرا وظليمُ الظلام ِ قدْ نفرا
جاء يهدي وصالهُ سحرا شادنٌ للقلوبِ قد سحرا
فتيقـّــــــــــــنتُ أنـّهُ قمرٌ وكذا الليلُ يحملُ القمرا
تعال معي لنشطر هذا الخفيف (الحلي) , والخفيف لا يأتي مشطورا الا متأخراً , و نقطع (فعِلن) بالقطع , ونحيلها الى (فعلْ) (11) , فيتولد لدينا شطر ( فاعلاتن مستفعَ لن فعلْ) ,وإذا خبنت (مستفعلن) , ونرقم التقطيع ( 2 3 2 1 2 3 1 1 ه) ), ونصيغه بتفعيلات جديدة , سيكون (فاعلن فاعلن مفاعلن) , وكل ما نعنيه , حذف ألف الإطلاق في الضرب أو التنوين في العروضة , وتسكين الراء , أرى الوزن الجديد أجمل جرساً , وألطف نغماً , وأخف إيقاعاً , راقصاً بصفقه ! مع وقفة مركزة على نون فاعلن الثانية , ورفع الصوت عند مفاعلن كأنها إجابة على ما تقدم , والسبب لأن ثلاثة أوتاد تشكلت بصورة متتالية عقبى الزحافات والعلل أخف من وتدين وفاصلة صغرى تتوالى ,ولكن هذا خروج عن علم العروض , والأبيات للصفي ! المهم هذه التشكيلة عندي أسلس من أعاريض وأضرب البحر (المتدارك) (فاعلن فاعلن فعلاتن ), أو (فاعلن فاعلن فاعلن) وغيرها ,فهو الحد الفاصل بين (المتدارك) ومقصراته و (الخفيف) وخفائفه ! , أعيد كتابة البيت الأول للصفي بالصيغة الجديدة مع الاعتذار لك وله ! :
زارني والصّباحُ قدْ سفرْ وظليمُ الظلام ِ قدْ نفرْ
3 - العروضة الثالثة مجزوءة صحيحة (مستفعَ لن) ولها ضربان :
الضرب الأول مثلها صحيح (مستفعَ لن), وأجزاؤه:
فاعلاتن مستفعَ لن فاعلاتن مستفعَ لن
ليتَ شعري ماذا ترى أمُّ عمرٍو في أمرنا (12)
ليْ تشعْ ري ماذا ترى أمْ معمْ رن في أمرنا
وقد تأتي (مستفعَ لن) مخبونة فتصبح (متفـْعلن), ولكن الخبن يعرض ولا يلزم كما في المثال الآتي :
نامَ صحبي ولمْ أنمْ منْ خيال ٍ بنا ألمْ (13)
والضرب الثاني لهذه العروضة المقصور المخبون (فعولن) : إذ تجري على (مستفعَ لن) علة (القصر) , فتحذف النون , وتسكن الللام , فتصبح (مستفعَ لْ) , ويصيب الأخيرة زحاف (الخبن) , فتغدو (متفعَ لْ) , فتتحول عروضيا إلى (فعولن) ,فتكون أجزاؤه:
فاعلاتن مستفعَ لن فاعلاتن فعولن
مثال لتمثيله , بيت ارتجالي لكاتب هذه السطور :
يا بعيداً بُعْدَ الدّنى فتَّ قلبي زماني
يا بعي دن بعْ دَدْ دنى فتْ تقلْ بي زما ني
فاعلاتن مستفعَ لن فاعلاتن فعولن
والحقيقة أنّ أبا العتاهية أول من أدخل هذا الضرب , وجعل عروضته مثله ,وتماهى جذلا : أنا سبقت العروض , وكان قد قال :
يا كثيرَ العنادِ أنتَ حبُّ الفؤادِ (14)
فاعلاتن فعولن فاعلاتن فعولن
لم يذكر صاحب (المفصل) الذي الذي استشهدنا بشاهده , أنّ بيت أبي العتاهية يمكن تقطيعه على الشكل :
فاعلن فاعلن فعْ فاعلن فاعلن فعْ
وبالتالي يحسب على مقصور (المتدارك), لا على مجزوء (الخفيف) ,أمّا البيت الذي ارتجله داعيكم , لا يمكن حسابه على (المتدارك) , والسبب لأن صدر البيت يتضمن تفعيلة (مستفعَ لن) , وهذه التفعيلة لا ترد مطلقا في أجزاء البحر (المتدارك).
ومن الطبيعي أن يخرج الشعراء بابداعاتهم عن أضرب وأعاريض البحر (الخفيف) وغيره من البحور , ولكن وفق الخط العام للأوزان الخليلية , فمثلا جاءوا بأضرب وأعاريض التام , أو للضرب وحده , أو للعروضة وحدها , على شكل (فاعلاتان) , (فاعلان) , (فعلان) , (فعْلن), ( فعِلن) , وللمجزوء أضربه وأعاريضه المستجدة -غير ما ذكرناه سابقاً - مثل (مستفعَ لاتن ) , و ( مستفعَ لان) , ناهيك بما ولـّد الشعراء المبدعون من مشطور ومنهوك للخفيف بالتشكيلات المستجدة لـ (فاعلاتن) و (مستفعَ لن)المذكورة آنفاً (15).
وقبل أن أودعك بعد الانتهاء من الكلام عن اللغة والشاعر والشعر , ابتداء من أركانه الأساسية , وتفعيلاته بزحافاتها وعللها , وتقطيعه العروضي التفعيلي و الرقمي , والمقطعي بإيقاعه , وانتهاء بالدوائر وبحورها الصافية ,ثم المركبة بتفعيلتيها المرتبة , وبحورها المهملة , أقول كتبت هذه الحلقات , وما كانت هي الغاية , وإنّما للوصول إلى التجديد وهو غايتي , وما أن أبحرت حتى وجدت نفسي غارقا في بحورها شيئاً فشيئاً , لذلك ترى البحور الأولى مختصرة , والأخيرة معمقة , تركت نفسي على سجيتها , واعتبرت كل حلقة مستقلة في حيثياتها , مترابطة في موضوعيتها ومنهجها , وإذا أعاننا الله , وساعدنا الحال , نكمل المشوار المديد مع القوافي والتجديد , ولكل حادث حديث , والحديث حديث !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)ابن جني : ص 131 الهامش (47) , الخطيب التبريزي : ص 109 مصدر سابق
(2) د سيد البحراوي : إيقاع الشعر ص 49 مصدر سابق.
(3) ابن جني : ص 135 المصدر السابق
(4) المصدر نفسه.
(5) ابن جني : ص 131 - 132 المصدر نفسه
(6) عدنان حقي : المفصل ص 92 مصدر سابق , الشاهد منه , ولكن هنالك خطأ, إذ لم تكتب الراء الساكنة من للراء المشددة في (الرّ,قيق) , ولا السين الساكنة للسين المشددة في ( السّرور) , وكلاهما من الحروف الشمسية .
(7)السيد أحمد الهاشمي : ميزان الذهب ص 81 الشاهد منه , ولكن كتابته العروضية فيها خطأ , إذ همزة الوصل في (فأستراح ) يجب أن لا تكتب عروضيا , وكتبت في المصدر , ثم أنّ (ميـّت) في العجز يجب أن تشدد ليستقيم الوزن , ولم تشدد في المصدر .
(8) د علي يونس : ص 114 مصدر سابق .
(9) راجع د . عمر خلوف : التجديد الوزني في البحر الخفيف - موقع القصيدة العربية
(10) ابن جني : ص 133 مصدر سابق
(11) أصل التفعيلة (فاعلاتن) , نخبنها فتصبح (فعلاتن ), ونبتر الأخيرة , فتتحول إلى (فعلْ) , بمعنى نجري الخبن والقطع ( على الوتد) والحذف على التفعيلة الأصلية .
(12) الهاشمي : ميزان الذهب ص 82 الشاهد غير مقطع , ابن جني : ص 133 مقطع.
(13)عدنان حقي :ص 93 الشاهد
(14) المصدر نفسه : ص 94 راجع .
(15) راجع موقع (منتديات القصيدة العربية) , مقال للدكتور عمر خلوف تحت عنوان ( التجديد الوزني في البحر الخفيف), يورد شواهد على كل الأضرب والأعاريض الجديدة .
|