كان الرجل الجالس بجانبي يستمع مثلي الى المحاضرة المعدة لمهرجان الامام الباقر (عليه السلام) في قاعة الامام الحسن (عليه السلام)، كنت انظر اليه بألفة رجل شيخ بصير فيه ألفة التواريخ.. أنا عرفته قبل ان يتحدث، وإذا بعالم المحاضرة يتحول الى حوار جانبي بيني وبين جاري في المقعد. أتدري جاء ذات يوم مروان بن الحكم وهو حائر يتعثر بآراء لا تنفعه، وبيأس يكبله من كل جانب، قائلاً يا ابن رسول الله ألا من استشارة، مشاحنة وقعت بيني وبين ملك الروم، فهددني بأنه سوف يضرب على الدنانير سب رسول الله، أو أرضخ لأمره، فالمسلمون ليس لديهم نقود يتعاملون بها سوى العملة الرومية..؟ فأشار اليه مولاي الباقر (عليه السلام) بطريقة عملية يصنع بها نقودا إسلامية مما جعل المسلمين يستقلون بنقودهم.. صمت برهة ثم قال لي: عاش الإمام الباقر مع جده الإمام الحسين حوالى ثلاث سنوات ونصف، وشهد في نهايتها فاجعة كربلاء، ثم قضى مع أبيه السجاد ثماني وثلاثين سنة، يرتع في حقل أبيه الذي زرعه بالقيم العليا، وأنبت فيه ثمار أسلوبه المتفرّد في حمل الرسالة المعطاء في نهجها وتربيتها المثلى للبشرية، واجتمعت فيه صفات ومزايا فريدة، فكان الإمام الصادق(عليه السلام) يقول: "كان أبي كثير الذكر، وما يشغله شيء عن ذكر الله... وكان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس". أما لقبه الباقر حصل عليه من جده المصطفى، قال لي رسول الله(ص): ستعمر حتى تلتقي بولدي محمد الباقر، يبقر العلم بقراً.. فاقرأه مني السلام، فلهذا صرت أبحث عنه الى ان التقيته لأقول له: ان ابك يقرؤك السلام، ووهبني الله تعالى رحمة أن أحضر كل مجلس يعمر باسم الله لإمامي الباقر (عليه السلام)، وليبارك الله خدام العتبة العباسية المقدسة لهذا المهرجان القيم، ولكل من يقيم لسيدي مهرجان الفكر والثقافة. أتعلم، لقد استثمر مولاي الباقر (عليه السلام) الانفراج السياسي الذي استفاد منه ليمارس دوره التربوي، فواجه الأفكار المنحرفة التي تغلغلت مع اتساع رقعة الفتوحات، وانهال عليه الناس يستفتونه عن المعضلات، ويستفتحونه أبواب المشكلات، وعمل الامام محمد الباقر على تعزيز المدرسة العلمية والفكرية، فأصبحت تشد اليها الرحال من كل اقطار العالم الإسلامي، وتخرج من مدرسته كوكبة من أهل الفضل والعلم. وبعد تولي هشام بن عبد الملك الخلافة عاد الإرهاب والضغط إلى الواجهة، وأدت سياسة الملاحقة والتنكيل إلى انتفاضة الشهيد زيد بن علي السجاد(عليه السلام) الذي استشهد هو وأصحابه وأحرقت جثته... كما قام هشام بملاحقة تلامذة الإمام، ولكن هذه الاجراءات التعسفية لم تمنع من تنامي الصحوة الإسلامية والوعي الديني لدى الناس، الأمر الذي زاد من مخاوف هشام بن عبد الملك، فأمر بدس السم له، فمات سلام الله عليه صابراً محتسباً مجاهداً وشهيداً، واستودع ما عنده من كتب وآثار الأنبياء، وكانت وصيته لابنه الصادق (عليه السلام): (هذا ما وصى به إِبرَاهِيمُ بنِيهِ وَيَعقُوبُ يَا بَنِيَّ إِن اللّهَ اصطَفَى لَكُمُ الدينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلا وَأَنتُم مسلِمُونَ)، التفت إليّ وقال: استأذنك الله، فقد حانت الصلاة.
|