أرتدي جلباب حزني وأدخل المأتم، يخيل إليّ أني ما عرفت صديقي الذي عشت معه العمر كله، رجل يحتل ذاكرتي بتصرفاته التي أدهشتني دهرا، كنت أضع رأسي على وسادتي، وأسال: من منا الصح، ومن منا الخطأ..؟ كنت أعارض خطوات افعاله العجيبة، قال أحد أقاربه:ـ البقاء في حياتك.. عندي سؤال..؟ قلت:ـ تفضل، فقال:ـ لماذا انت والمرحوم افترقتما غاضبين؟ مثل هذا السؤال لا يطرح والمأتم قائم، حقيقة السؤال احرجني، فقلت له: هذا الخير غير صحيح، نحن لم نفترق أبداً، لكننا اختلفنا في بعض وجهات النظر، والاختلاف لا يفسد المودة بيننا، فنحن اخوة وأبناء الحلة التي حملتنا صغاراً، وأبناء حي الثورة الذي ترعرعنا فيه معاً، وأبناء بيوت متجاورة تشترك في الكثير من همومها وحنينها، بينما اخوته اضمرا السؤال الى ما بعد يوم الثالث، فحدثني أخوه:ـ نحن ندري انكما احباب، لكننا فعلاً محتاجون أن نعرف ما هي نقاط الاختلاف التي أدت الى بعض البرود في العلاقة؟
قلت: انتم ابتعدتم عن حقيقة الموضوع، فالفراق كان بسبب العمل والاختلاف نفسه يعرفه الكثير من الأصدقاء هو لم يكن قضية شخصية اطلاقا، وحتى الأصدقاء انقسموا فريقين: فريق له وفريق لي..!
قال أحد الضيوف من أقاربه وهو رجل وقور:ـ نحن فقط أحببنا أن نعرف هذا الاختلاف، وزاد فضولنا؛ كونه غير شخصي، يعني هناك مصلحة عامة على ما اعتقد. قلت: أنتم تعرفون ان صديقي الذي هو ابنكم احمد حمزة ناجي الجشعمي كان من افضل (الاسطوات) بارعا في بناء البيوت، ولأنه ابن دين وصاحب ضمير عال، فهو كان يخلص في عمله، علاوة على انه يتساهل بالأجور، ولأول مرة أرى في حياتي (خلفة بناء) يبني بالأقساط المريحة، يقول: ربحي الحقيقي عندما يسترهم سقف انا بانيه، فهو بهذه الطريقة ساعد الكثير من المحتاجين.
تفاجأت به، وإذا به ترك هؤلاء الناس بحيرتهم، والتحق مقاتلا في الجبة، فقد لبى نداء المرجعية المباركة منذ ساعات النداء الأولى، قلت له: هنا موقعك الحقيقي، أن تبقى بين الناس ان تبني لهم بيوتهم، انت في موقع فاعل ليس هناك فارق بينك وبين موضع مقاتل، هذا العمل بحد ذاته له اجر من الله سبحانه تعالى، فالبناء عمل وطني وانساني. اجابني حينها:ـ ما فائدة ان نبني بيوتا غير آمنة، بيوتا مهددة لا ندري بأي ساعة يدخل داعش ليحتل تلك البيوت، هو قال:ـ انا أرى أن هناك موقعي الحقيقي عند السواتر، وأنا أرى أن هنا موقعه الحقيقي اكثر خدمة للناس.
بعدما تطوع، كنت أسأل عنه، واتصل به، ويتصل بي، فقد شارك في عدة معارك منها عمليات شمال بيجي، وأصيب بشظايا في ساحا الشرف، ورفض الاخلاء، ورابط معهم ليرفع من معنوياتهم، كان يقول في ساعة اصابته وهو يبتسم: "لا تخافوا.. هي واحدة من اثنين اما النصر او الشهادة"، واثر احتدام المعارك، أصيب في منطقة الحراريات بسيل من الصواريخ انتقاماً من فاعلية وجوده، فاستشهد ليلحق بالركب الحسيني.
وقال لي يوما: إنّ عليَّ دَيْناً في رقبتي، اذا استشهدت فثواب عملي لروح والدتي، وإذا انتصرنا وعدنا من الحرب سالمين، سأبني جميع دور عوائل الشهداء مجاناً في سبيل الله، وهذا برقبتي نذر ان شاء الله أوفيه.
|