في 17 تموز / يوليو الجاري ناقش الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع نواب من حزبه الجمهوري (مارك ويلسون / غيتي إيماج ) مجريات قمة هلسنكي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وذلك في اجتماع مصغر في البيت الأبيض.
ويقول الكاتب ويل إنبودين في مجلة «فورين بوليسي» إنه بعد الأداء الكارثي لترامب في هلسنكي حان الوقت لتقييم سلوكه وما نجم عنه من ضرر فادح لمصالح الولايات المتحدة. وهذا التقييم ليس من دوافعه الغضب الناجم عن تلك الخيانة الصريحة لمكانة ومصالح الولايات المتحدة أمام خصمها التاريخي اللدود، وهو غضب مشروع وأنا ادلي بدلوي فيه ولن أستخدم هنا المفردات الدارجة التي تزخر بها اللغة الإنكليزية للتعبير عن هذا الغضب، ولهدا أكتفي بالقول هنا بأنها كانت واحدة من أكثر اللحظات مروعة في سجلات التاريخ الرئاسي للولايات المتحدة.
تقييم الضرر
ولكي نبدأ بتقييم الضرر والآثار السلبية على بلدنا ومصالحنا الوطنية علينا أن لا ننطلق من هذا اليوم الكارثي في هلسنكي وحسب بل كان الأسبوع بأكمله مريعاً بدأ بتحطيم ترامب لحلف الناتو، ووصف الاتحاد الأوروبي بأنه (عدو) للولايات المتحدة، وإهانة رئيسة الوزراء البريطانية تريزا ماي ووجه ضربة لإضعاف ائتلافها الحكومي الهش، وألقى باللائمة على الولايات المتحدة في أي خلافات مع روسيا. بالتالي كان أسبوعاً مروعاً. وبكل المقاييس كان أسبوعا مروعاَ للغرب كمنظومة، أو ما كنا نطلق عليه منذ زمن بعيد، العالم الحر !
من المستحيل أن نحصر في هذه القراءة مدى الضرر الذي ألحقه ترامب بمصالح الولايات المتحدة من خلال سلوكه الأرعن، ولكني سأطرح هنا بعض ما أراه من عواقب وما أتوقع ظهوره من نتائج، من خلال مراقبة حثيثة لمجرى الأحداث في محاور عديدة منها :
جهاز المخابرات الأمريكية
يمكن لأي شخص عمل مع جهاز المخابرات أن يشهد على المرونة والارتباط والتفاني والاحتراف بين العاملين والقائمين علية، وبالتالي أن ينتقد الرئيس الجهاز علانية على منصة إعلامية عالمية وهو يقف إلى جانب خصمنا التاريخي اللدود – وهو بالمناسبة أكثر خصومنا ذكاء ودهاء، بالتأكيد ستكون هنالك عواقب وخيمة، وسوف تتأثر وتتقلص عمليات عديدة للجهاز كون القائمين عليه يشكون في دعم الرئيس.
إجراء مضاد
وهنالك أجهزة لدول أخرى لديها ارتباطات وعلاقات استراتيجية مع جهازنا ستقلص عملياتها ونشاطاتها معنا كونهم لا يثقون بالتزامات الرئيس الأمريكي بالمعايير المفترضه وما هو مطلوب منه كرئيس، كما جرى مثلا في ميدان السايبر النشط من الجانب الروسي علينا، حينما لم يتم اتخاذ أي إجراء مضاد كون الرئيس يرفض أن يتخذ مثل هذا القرار، بينما هو الوحيد المخول باتخاذه !
ولن نعرف الآن مدى الضرر الذي مس الجهاز ولكن الأيام المقبلة ستأتي بالكثير.
حّذر مدير المخابرات الوطنية (دان كوتس) – وأعاد التشديد على التحذير – من العمليات الروسية النشطة التي تستهدف البنية التحتية الأمريكية، وخاصة الانتخابات الوطنية والتي ستجري في (تشرين الثاني / نوفمبر) المقبل، سنرى حينها إلى أي مدى سيصل الضرر الذي تسببه العمليات الروسية في بنية المؤسسات الديمقراطية في الولايات المتحدة، لا سيما في ضوء رفض ترامب البدء باتخاذ خطوات رادعة لمواجهة الخطرالمقبل.
وبالنسبة إلى العديد من الجمهوريين في الكونغرس والذين فشلوا حتى الآن في أخذ التهديد الروسي على محمل الجد، أقول لهم، فكروا في ذلك:
بوتين يعمل على زرع الفوضى ويعزز الانقسام من أجل إضعاف الولايات المتحدة، وبالتالي ماذا لو قرر في هذه الدورة الانتخابية دعم المرشحين الديمقراطيين؟ من المؤكد سيطرة الديمقراطيين على مجلس النواب ستزيد من معاناة إدارة ترامب. وبالتالي فإن المبادئ والمثل الأمريكية والبُعد الوطني ومفهوم الهوية يجب أن تشكل دوافع قوية لهم ليقوموا بدورهم في حماية نظام انتخاب أمتنا الأمريكية. وبالتأكيد سيأتي اليوم الذي يرون فيه أن صمتهم الغير مفهوم حيال العمليات الروسية سوف يضر بهم أيضا.
قمت بإدراجها معًا كونها الأهداف الأكثر وضوحًا في الخطوات الجريئة المقبلة لبوتين، والآن بعد أن لمس ترامب موقف بوتين الحازم في القمة وقرأ بوتين ضعف ترامب، سينتهز بوتين الفرصة الذهبية لاتخاذ تدابير جديدة (وربما ما هو أسوأ من ذلك) ضد أي من دول البلطيق الثلاث أوكرانيا. وهنالك نتائج شبيهة في التاريخ المعاصر نجمت عن الأداء الضعيف للرئيس السابق جون كنيدي في قمة فيينا والتي انعقدت مع رئيس الوزراء السوفيتي نيكيتا خروتشوف في حزيران / يونيو 1961، وقتها انتهز خروتشوف الفرصة وبدأ ببناء جدار برلين ثم نشر الصواريخ النووية في كوبا. وسوف تكشف الأشهر القليلة المقبلة عما إذا كان بوتين يجري حسابات مماثلة.
عبر النافذة الإيرانية
بجميع المقاييس، يجب أن يكون حلف الناتو إنعكاس لصورة القوة المتنامية والمزدهرة دوما لأعضائه، وكما لاحظ (ديريك شوليت) وآخرون، في ضوء زيادة ميزانيات الدفاع للدول الأعضاء، كان هنالك مناورات أكبر وأوسع وقدرات جديدة للحلف. ولكن العمود الفقري للناتو كان دائما الالتزام السياسي القوي بين أعضائه، وهو ما تزعزع بشكل كبير إثر قمة هلسنكي وكذلك لقاء ترامب المشين مع تاكر كارلسون ووصفه منظمة حلف شمال الأطلسي بالمؤسسة المتهالكة والضعيفة. كما أن سوء سلوك ترامب تجاه حلفائنا الأوروبيين يضعف من موقف قادتهم السياسيين وقدرتهم على الاستمرار في زيادة ميزانيات الدفاع لبلدانهم وهو ما ينعكس على الحلف.
ومؤخرا هنالك رفض ملموس وتباعد كبير بين السياسيين الأوروبيين وإدارة ترامب.
لا نعرف ما هي الاتفاقيات أو الشراكات، هذا إن وجدت، والتي قد يقدمها ترامب لبوتين في الشرق الأوسط في اجتماعهما الخاص الذي يستمر ساعتين. ومع ذلك، فوفقاً لميول ترامب، من المحتمل جداً أن يمنح بوتين الضوء الأخضر والمباركة لشراكة روسيا مع نظام بشار الأسد وتعزيز الوجود الروسي في المنطقة. وبالتأكيد سيدرس بوتين كيفية استغلال العديد من الفرص الجديدة التي سيمنحه إياها ترامب في الشرق الأوسط، وغالباً ستكون عبر النافذة الإيرانية، مما سيزيد من إضرار الولايات المتحدة وإسرائيل بالتبعية.
في حين ساهمت أخطاء تريزا ماي العديدة في محنتها الحالية، أدت الإهانات التي وجهها ترامب لسياستها إلى صب الزيت على نيران حكومتها المترنحة أصلاً، وهو ما قد يفضي إلى جولة جديدة من الانتخابات في بريطانيا، قد يتمخض عنها فوز اليساري المتطرف (جيريمي كوربين – زعيم حزب العمال)، بمنصب رئيس الوزراء لبريطانيا، سواء كرئيس من خلال حكومة ائتلافية أو من خلال حكومة عمالية صرفة.
إن هذه الفئة تحتاج لفهم ماهية المآزق المحفوفة بالمخاطر التي نعيشها. لقد تولد الكثير من الغضب الناجم عن استعداد ترامب للنظر في طلب بوتين من أن تتمكن روسيا من استجواب أشد نقاد الأخير تأثيراً، وهو ما كرره الناطق بلسان البيت الأبيض، هذا إلى جانب الصمت المريب تجاه محاولات الاغتيال بالسموم التي ارتكبتها الأجهزة الروسية ضد معارضي النظام في خارج روسيا، وهو ما سوف يشجع سلوك رجال العصابات من قبل بوتين. كما أنه سيعرض الدبلوماسيين الأمريكيين العاملين في الدول ذات الأنظمة القمعية للخطر، حيث ترى تلك الحكومات بأن رئيس الولايات المتحدة لا يحرك ساكناً ليقف إلى جانب الأشخاص الذين يخدمون تحت قيادته. نحن نعلم بالفعل أن المغامرة الأوروبية لترامب كانت وصمة عار. ولكن ما مدى الضرر الذي ألحقه بنا بالفعل، هذا ما سوف يتضح في الأسابيع والأشهر المقبلة.
«بروجيكت سنديكيت»: منظمات حقوق إنسان أنقذت الكثير من الأرواح لكنها لم تنجح في وقف الحروب
لقد كان هناك الكثير من الأنباء السيئة التي تقاطرت في الآونة الأخيرة وذلك على صعيد جبهة حقوق الإنسان، فمن جهة استأنف الرئيس السوري بشار الأسد الضربات الجوية على شعبه لتحصد قاذفاته مقاتلي المعارضة والمدنيين على حد سواء. ومن جهة أخرى يواصل حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا التقدم في سعيه الحثيث إلى القضاء على استقلالية القضاء. ومن غرب الأطلسي أيدت المحكمة العليا في الولايات المتحدة قرار حظر السفر الذي أصدره الرئيس دونالد ترامب، وهو القرار الذي يمنع المهاجرين واللاجئين وحملة التأشيرات من مواطني دول مثل إيران وليبيا وكوريا الشمالية والصومال وسوريا وفنزويلا واليمن من دخول البلاد.
هذا ما كتبه أرييه نيير في بروجيكت سنديكيت من جانب آخر كان هنالك فرحة انبثقت من رحم الكآبة والأخبار المثبطة للهمم في الآونة الأخيرة، فقد وصلت إلى أوروبا ليو شيا وهي أرملة الشاعر الصيني ليو شياوبو (ناشط حقوق الإنسان الشهير والمعارض السياسي) والبالغة من العمر 57 عاما.
لقد توفي زوج شيا – الحائز على جائزة نوبل للسلام – بسرطان الكبد وذلك بعد ما يقارب ثماني سنوات قضاها في السجون الصينية من أصل مدة الحكم والبالغة 11 سنة، بسبب صياغة عريضة تطالب بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. وعندما مُنح نوبل في عام 2010، منعت السلطات الصينية عائلته من السفر إلى أوسلو لقبول الجائزة، ووضعت زوجته قيد الإقامة الجبرية، وسمحت بزيارات قصيرة الأمد بين الزوجين في الوقت الذي واصلت فيه الحكومة الصينية مراقبة تحركاتها عن كثب، حتى بعد وفاته.
في حقبة أخرى وإدارة أمريكية مختلفة
في حقبة أخرى وإدارة مختلفة لربما تدخلت الولايات المتحدة من قبل الرئيس أو ربما من قبل مسؤول آخر، مثل وزيرة الخارجية، من خلال مطالبة السلطات الصينية بالسماح لليو بالسفر، وهو الدور الذي لعبته المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، وطلبت بالتالي من الرئيس الصيني (شي جين بينغ) إطلاق سراح ليو. والتالي منحت ليو الإذن للسفر إلى ألمانيا. إن إطلاق سراح ليو يمثل خطوة صغيرة ولكنها دفعة مهمة إلى الأمام في مسيرة طويلة وصعبة نحو عالم تحظى فيه حقوق الإنسان الأساسية ولجميع الناس بالحماية، وهو الهدف الذي تسعى إليه الحركة الدولية لحقوق الإنسان.
وتعود جذور هذه الحركة إلى منظمات مكافحة العبودية التي ظهرت في إنكلترا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وأصبحت قوة عالمية حقيقية حينما تأسست منظمة العفو الدولية في عام 1961. لقد بدأت منظمة العفو الدولية في تحديد هوية «سجناء الرأي» – الأشخاص المسجونين بسبب تعبيرهم السلمي عن معتقداتهم السياسية أو الدينية أو غيرها من المعتقدات التي تستند إلى ضمير حي أو لهويتهم الثقافية – وذلك في جميع أنحاء العالم، وجذبت بالتالي قصصهم الشخصية الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان، وبحلول أواخر السبعينيات من القرن الماضي، ألهمت منظمة العفو العديد من النشطاء ودفعتهم لتأسيس المزيد من المنظمات في جميع أنحاء العالم، وهي جميعها تساهم بتعزيز حقوق الإنسان على أساس مستمر.
هيومان رايتس ووتش .. منذ أربعين عامًا، ساعدت في إنشاء منظمة واحدة من هذا النوع وهي (هلسنكي ووتش)، والتي تطورت على مدار السنوات القليلة التالية إلى ما يعرف اليوم باسم (هيومن رايتس ووتش). لقد ذهب عملنا إلى أبعد من محاولة تحرير سجناء رأي فرديين وشمل جهوداً لإنهاء الخلافات المسلحة، كما جرى في أمريكا الوسطى في ثمانينيات القرن المنصرم، وفي يوغوسلافيا قبل تفككها في التسعينيات، وفي الشرق الأوسط اليوم، أو على الأقل للتخفيف من الأذى الذي تتسبب فيه هذه النزاعات.
ربما ساهم هذا العمل في إنقاذ الكثير من الأرواح، ولكن للأسف لم تنجح هيومن رايتس ووتش ولا أي منظمة حقوق إنسان أخرى في وقف الحروب. إن المعاناة المستمرة في البلدان حول العالم هي تذكير دائم بمدى العمل الذي لا يزال يتعين القيام به لنصل إلى النتيجة المرجوة والهدف الأسمى للجميع.
ابنة الراعي من ألمانيا الشرقية
ابتسامة ليو حينما وصلت هلسنكي في طريقها إلى برلين، هي ترجمة فعلية لهذه الجهود، وتسلط الضوء على المعاني الحقيقية لحقوق الفرد، كما أن قصتها هي تذكير قوي بالفرق الإيجابي الهائل الذي يحدث حينما يترجم السياسيون المتربعون على قمة الهرم السياسي قيمهم الإنسانية إلى سياسة. وهذه ليست المرة الأولى التي تدافع فيها ميركل عما هو صحيح وتفعله، على سبيل المثال في عام 2015، وحينما كان طوفان اللاجئين الفارين من مناطق النزاع في سوريا يجتاح الاتحاد الأوروبي، رسمت ميركل سياسة اللاجئين الأكثر إنسانية في أوروبا – وهو القرار الذي جوبه بانتقادات كبيرة وضغط سياسي في حينه.
ولكن وبالنظر بعيداً عن الأنف، كان لابنة الراعي من ألمانيا الشرقية، فضل كبير في إضافة رصيد إيجابي من السمعة الجيدة لبلد كان ومنذ ما يقارب الثلاثة أرباع القرن، مسؤولاً عن بعض أكبر انتهاكات حقوق الإنسان على الإطلاق. وبالنظر إلى تاريخها المشرف في إنفاق رأس مالها السياسي والمبني على قيم إنسانية وذلك بالجانب النبيل والصائب، فليس من المستغرب أن تتناول ميركل قضية ليو، فهي تضرب أمثلة للعالم على مدى أهمية الدور الذي يجب ان يلعبه القادة السياسيون من خلال سياسة مبنية على القيم والتالي تعزيز حقوق الإنسان في العالم .. ومع الأسف الشديد هؤلاء قلة.
|