مرافئٌ فِي ذاكرةِ يحيى السماوي ( الحلقة الحادية عشرة )

يقولُ أدونيس إنَّ الشعرَ ليس مجردَ تعبيرٍ عَنْ الانفعالاتِ وَحدها، إنَّمَا هو رؤية متكاملة للإنسانِ وَالعَالم وَالأشياء، وَكُلِّ شاعرٍ كبير هو مفكرٌ كبير. وَلا أخفي سراً أَنَّ تمعّني فِي الرؤيةِ المذكورةِ آنفاً، كان مِنْ بَيْنِ أهمِ الأسباب المَوْضُوعِيَّة الَّتِي حفزتني للخوضِ فِي غمارٍ - مَا أتيح لي - مِنْ تجربةِ الشاعر الكبير يحيى السماوي بأبعادِها الإنسانيَّة، بعد أنْ تيقنتُ مِنْ سموِ منجزه الشعري المغمس بثراءٍ فكري وَحس وَطني وَوَعى عقلاني يعبرُ عَنْ إيمانٍ بسلامةِ الخطى وَوضوح الرؤية، فلا غرابةَ فِي أنْ يكونَ للإنسانِ وَالحبِ والجمالِ حضورٌ وجدانيٌّ فِي مَا تباينَ مِنْ أجناسِ نصوصِه الشعريةِ الرشيقةِ الأنيقة، والمؤطرةِ بذوقٍ عالٍ وحسٍ مرهف، بالإضافةِ إلى توشيمِ بعض فضاءات نصوصه الشعرية بمفرداتٍ منتخبةٍ بعنايةٍ وَدرايةٍ مِنْ مَوْرُوثنا الثَّقَافِيّ والاجْتِمَاعِيّ؛ مُوظِفاً مَا تكتنزه ذاكرته المتقدة المتوهجة مِنْ صورٍ مَا بَيْنَ طياتها، وَالَّتِي ظلت ملتصقة بوجدانِه وَلَمْ تفارقه، فثمَّةَ مفردات مِن التراثِ الشَعْبِيِّ مَا يَزال لها صدى فِي بعضِ نتاجاته الشعريَّة.

مِنِ البديهي أنْ يكونَ لبعضِ الأحداث - وَلاسيَّما فِي مرحلتي الطُفُولة وَالصِبا - مساهمة متباينة الأثر في بناءِ شخصية الإنْسَان وَإنضاجها، وَلعلَّ مِنْ بَيْن أهداف الباحث فِي محاولةِ الغوص بِما أتيح لَهُ مِنْ ثنايا طُفُولةِ الشاعر السَمَاويِّ وَصِباه هو السعي لاستخلاصِ العبر مِمَا يدور فِي الذاكرة الوَطَنيّة مِن الوقائعِ وَالفعاليات الَّتِي حجبها غبارُ الزمن الصديء، وَساهمت محن سنواته فِي تغييبِ أغلب ملامحها وتضييع أصالتها، وَالَّتِي قد لَا يجد الباحث عَنْ حكاياتها سبيلاً لأبوابِها العتيقة المؤصدة بعد أنْ طالَها النسيان عَلَى الرغمِ مِن الحاجة إلى بعضٍ مَا استنبت بأيامِها مِنْ أنْشِطَةٍ فِي حياتِنا الحَاضرَة.

فِي طُفولتِه الَّتِي كانت غنيةٌ بالفقرِ وَالجمال، لَمْ تكن للسَماويِّ يحيى هوايات محددة، فإحساسه بظروفِ أسرته المعيشية لَمْ يكن يسمح له بممارسةِ مَا هو سائد يومذاك مِن الهوايات، حيث عمد إلى الاستمتاعِ بمعطياتِ الحياة كما هي، ترافقه عَلَى الدوامِ كلمات ثناء والده وَابتسامة وَالدته وَدعواتها الكريمة الطيبة " طيب الله ثراهما ". وَالْمُلْفِتُ أَنَّه استبدل مطالعة الكتب بممارسةِ اللعب مع أترابه فِي أزقةِ المحلةِ "وَدرابينها" الضيقة بعرباتِ الأطفال المصنوعة مِن الصفيحِ وَالعلب الفارغة وَبقايا أعمال نجارة الخشب وَغيرها مِن الألعابِ الَّتِي كانت فِي مجملِها ملائمة للظروفِ الحياتية حينئذ، حيث انكب بشغفٍ عَلَى قراءةِ الكتب القليلة الموجودة عند ابيه وَهو فِي أواخرِ مرحلة الدراسة الإبتدائية، وَأَدْهَى مِنْ ذلك أَنَّه غدا بمثابةِ جزءٍ مِنْ أثاثِ المكتبة العامة حين دخل المرحلة المتوسطة. وَمَا أظننا نغلو فِي القولِ أَنّ نباهةَ السَماوي لِمَا أحاط بِه مِنْ ظروفٍ أرشدته إلى طرقِ سُبُلِ الحياة الأدبية عوضاً عَنْ ملاعبِ الصبا وَعذب سحرها؛ إذ علمته قساوة ظروف المعيشة كيفية استثمار الفقر فِي سنواتٍ مبكرة مِنْ حياته بقراءةِ مَا يتاح لَه مِن الكتب، وَهو الأمر الَّذِي يجعل المتلقي يقرُ بتميزِ تجربته الإنسانيَّة وَالإبداعية، وَالَّتِي عكست السطور القليلة المذكورة آنفاً ضوءً متوهجاً عَلَى قليلٍ مِنْ معطياتِ مرحلةٍ عمرية، لا رَيْبَ فِي مشاطرةِ القارئ لكريم إياي فِيمَا أعتقد جازماً أنَّه مهمٌ لخصوبةِ مسيرته الإبداعية فِي عوالمِ القوافي وَالتَّرْبِيَة وَالمواقف الوَطَنيّة وَالإنسانيَّة.

دعيني مـــــن أماسيكِ العِـذاب

فما أبقى التشردُ مـــــن شبابي

قَلبْتُ موائــدي ورميتُ كأسي

وشيَّعْتُ الهوى ورَتجْتُ بابي

خبَرْتُ لذائذ الدنيا فكانت

أمرَّ عليَّ من سمٍّ وصاب

وجدْتُ حلاوة الإيمان أشهى

وأبقى من لُماكِ ومن إهابي

إذا يبُسَ الفؤادُ فليس يُجدي

ندى شفة مُطيَّبةِ الرضابِ

أنا جرحٌ يسير على دروبٍ

يتوه بها المصيبُ عن الصوابِ

سُلبْتُ مسرَّتي واسْتفردتنــــــي

بدار الغُرْبتينِ مِــــدى ارتيابي

وحاصَرَتِ الكهولــة بعد وهْنٍ

يَدُ النكباتِ جائعــــــة الحِرابِ

وما أبقتْ لــــــــــي الأيامُ إلاّ

حُثالتــــــــــها بإبريقٍ خَرابِ

ترَشَّفْتُ اللظى حين اصطباحي

وأكملتُ اغتباقي بالضبابِ

أُطلُّ على غدي بعيونِ أمسي

فما شرَفي إذا خنْتُ انتسابي؟

تُحرِّضُني على جرحي طيوفٌ

فأنْبشُهُ بسكيني ونابي

وربَّ لذاذةٍ أوْدَتْ بنفسٍ

وحرمانٍ يقودُ إلى الطلاب

أظلُّ العاشقَ البدويَّ.. أهفو

إلى شمسٍ وللأرضِ الرَغابِ

أنا البدويُّ لا يُغري نِياقي

رخامُ رُبىً.. وناطحةُ السحابِ

أنا البدويُّ.. لا يُغوى صُداحي

سوى عزف السواني والرَّبابِ

ودلَّةُ قهوةٍ ووجاقُ جمرٍ

تَحَلَّقَ حوله ليلاً صحابي

وبيْ شوقٌ إلى خبزٍ وتمرٍ

كما شوق البصيرِ إلى شِهابِ

وَلِلَبَنِ الشنينِ وماءِ كوزٍ

وظلِ حصيرةٍ في حَرِّ آبِ

فُطِرْنا قانعينَ بفقرِ حالٍ

قناعةَ ثغرِ زِقٍّ بالحَبابِ

أبٌ صلَّى وصامَ وحَجَّ خمساً

وأمٌ لا تقومُ عن «الكتابِ»

ألا ياأمس أين اليوم مني

صباحاتٌ مُشَعْشعةُ القِبابِ؟

وفانوسٌ خجولُ الضوءِ تخبو

ذؤابتُهُ فَيُسْرِجُها عتابي؟

وأين شقاوتي طفلاً عنيداً

أبى إلاّ انتهالاً من سرابِ؟

أُشاكِسُ رفقتي زهْواً بريئاً

ومن خَيْشٍ و«جُنْفاصٍ» ثيابي!

ألوذُ بحضنِ أمي خوفَ ذئبٍ

عوى ليلاً وخوفاً من عُقابِ!

كبرتُ ولايزال الخوفُ طفلاً

وقد صار «الرفاقُ» إلى ذئابِ!

تطاردُ مقلتي منهم طيوفٌ

فعزَّ عليَّ يا أمي إيابي

وعزَ على يديك تَمَسُّ وجهي

لتمسحَ عنه وَحْلَ الاغترابِ!

وعزَّ .. وعَزَّ.. حتى أنَّ عِزّي

غدا ذُلاً فيا لي من مُصابِ!

وعاقبني الزمان وهل كنأيٍ

بعيدٍ عن بلادي من عِقابِ؟

تقاسَمَتِ المنافي بعض صحبي

وبعضٌ آثَرَتْهُ يدُ الغيابِ

ولولا خشيتي من سوءِ فهمٍ

وما سيقالُ عن فقدي صَوابي

لَقلتُ: أَحِنُّ يا بغداد حتى

ولو لصدى طنينٍ من ذُبابِ!

لِوَحْلٍ في العراقِ وضُنْكِ عيشٍ

جِوارَ أبي المُدَثَّرِ بالترابِ

جوارَ أُخيَّةٍ وأخٍ وأمٍ

وأحبابٍ يُعَذِّبُهم عذابي!

أبا الحرف البليغ وهل جوابٌ

كصمتي حين أعجزني جَوابي؟

بلى.. لم ألقَ مثل عرارِ نجدٍ

ولا كرحابِ مكةَ من رحابِ

ولا كعشيركم أهلاً وصحباً

ولا كحصونكم دِرْعاً لما بي

عشقتُ ديارَ ليلى قبل ليلى

فَمِنْ رَحمِ الصِّبا وُلِدَ التصابي

ولكن شاءتِ الأيامُ مني

وشاءَ جنونُ طيشي من لُبابي

ولستُ بِمُبْدلٍ كأساً بكوزٍ

ولا لهواً بِعِفَّةِ «ذي نِقابِ»

أنا البَدويَّ.. في قلبي عِقالٌ

و(َيَشْماغٌ) ولستُ بِمَنْ يُحابي

إذا كان العراقُ رغيفَ روحي

فإنَّ عَرارَ واديكم شرابي