يوافق الحادي عشر من شهر ذي القعدة ذكرى ولادة الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه السلام، فبهذه المناسبة نذكر لمحات من التواضع في سيرته عليه السلام.
لَقَد أولَی الإسلامُ أهمِیَّةً ومَنزِلَةً کُبرَی لِلحیَاةِ الإجتِماعِیَّة فی المجتَمَع المُوَحَّد، ومِن أجلِ تَمتینِ عُرَی التَواصُل الإجتِماعِیّ فقَد قَامَ الإسلامُ بِتَقدیمِ تَعالیمَ بَنَّاءَة وأسالیبَ فَعَّالَة ومُؤَثِّرَة فی هَذا المَجَال.
ومَن هَذِهِ التّعالیم تَأکیدُ الإسلام المُستَمِرّ عَلی التَّواضُع فی التَعامُل الإجتِماعیّ مَع الآخَرین.
لقَد قَامَ المَعصومون(ع) ومن بَینِهِم الإمام الرِّضا(ع) بِنشرِ وتَرویجِ هَذا الأَمر الإسلامِی، فبِالإِضافَةِ إلی أنَّ الإمام الرِّضا(ع) کانَ یُوصِی الآخَرین بِالتَّواضُع فقَد طَبَّقَ هَذا الأمر أیضاً فی حیاتِه عَلیه السَلام.
إننا سنستعرض فی هذا البحث تجلی التواضع فی سیرة الإمام الرضا(ع)، لذلک سنقوم بعرض مواقف وأمثلة عملیة لتواضعه علیه السلام.
مَعرِفَةٌ مَفهومِ التَواضُع
التواضع من مادة(وضع)، وفی اللغة بمعنی التذلل(١) وفی الإصطلاح بمعنى رضا الإنسان بمنزلة دون ما یستحقه فضله و منزلته. (2)
و ذکر المرحوم النراقی فی تعریف اللتواضع أنه الإنکسار النفسی الذی لا یری الإنسان نفسه أعلی من الآخرین و لازمه أن یتحرک الشخص تجاه الآخرین من موقع الإحترام و التعظیم لهم بکلماته و أفعاله (3).
القیمَةُ المَعنوِیَّة للتَواضُع
لقد أشار رسول الله(ص) إلی أهمیة التواضع معتبراً إیاه من أفضل الأعمال، حیث یقول: أفضل الأعمال ثلاثة، التواضع و….(4) و فی مکان آخر اعتبر المتواضعین أقرب منزلة إلی الله: أقربُ النّاسِ مِن اللهِ المُتواضِعُون(5) .
کذلک بیّن الإمام علی(ع) عظمة التواضع معتبراً إیاه أفضل العبادات حیث یقول: “علیک بالتواضع فإنه من أعظم العبادة”(6)، کما اعتبره من أشرف الخلائق التی یتحلی بها الإنسان: “أشرَفُ الخلائقِ التّواضُعُ والحِلمُ ولینُ الجانب”(7) .
قال الإمام الصادق(ع) مشیراً إلی مکانة الإنسان المتواضع: “أقربُ النّاسِ إلی اللهِ المُتَواضِعُون “(8).
کذلک ذکر القرآن الکریم (عباد الرحمن) وعدَّد لهم اثنی عشر صفة، والجمیل هنا أنه جعل التواضع أول هذه الصفات وهذا یظهر أهمیة هذه الخصلة الحمیدة، {وعَباد الرَحمن الذین یَمشونُ عَلی الأرضِ هَونَا}. (9)
نستنتج من التعالیم الإسلامیة أن التواضع هو أصل مهم وأساسی، ولو طبقناه فی تعاملنا مع الآخرین لقطفنا آثاره السارة، حیث أن آثاره تتجلی فی التقرب من الله(10)، الأمان من شر الشیطان(11)، العظمة والشرف(12)، کسب المودة(13) وأمثال ذلک.
التَواضُع و لینُ الجَانِب فی سیرَةِ الإمام الرِّضا(ع)
بما أن التواضع یعتبر خصلة عظیمة و هو من أخلاق العظماء، فإننا عندما نذکر رجال الله العظماء لابد أن نذکر تواضعهم و لین جانبهم، لأن هذه الخصلة هی سلّم إلی الدرجات و العلو، و کل من تحلی بها بلغ مراتب الرفعة و الدرجة کما قال الله فی الحدیث القدسی: “إنی وضعتُ الرفعةَ و الدرجةَ فی التّواضع” . (14)
إن أنبیاء الله هم من جملة رجال الله العظماء الذین اتصفوا دائماً بالتواضع ولین الجانب، وقد وصف الإمام علی(ع) تواضعهم قائلاً: “رضِیَ اللهُ لَهم التّواضُعَ فألصَقوا بالأرض خُدودَهم وغفروا فی التُّرابِ وجوهَهُم وخَفَضوا أجنَحتَهم لِلمُؤمنین “. (15)
ومن رجال الله العظماء أیضاً الأئمة المعصومون علیهم السلام حیث کانت سیرتهم مبنیة علی التواضع، فشخص مثل علی(ع)کان یصب الماء علی یدی الضیف ویغسل له یده بمنتهی التواضع(16). وکذلک شخص کالإمام الحسین(ع)حیث کان یقبل دعوة الفقراء ویجلس إلی جانبهم علی الأرض دون أی تکبر لیتناول من طعامهم البسیط(17).
وکذلک إمام کالإمام الرضا(ع) وبدون أن یجعل لنفسه خصوصیة کان یعامل کافة فئات الناس، و حتی الخدم و العمال بمنتهی المحبة و التواضع، و سنذکر هنا بعض الأمثلة علی سلوک الإمام الرضا(ع) الملیء بالتواضع.
1-التَواضُعُ والمَساواة:
إن المحبة و المساواة هما هدفان قدیمان عند المجتمعات البشریة، و قد کان أولیاء الله هم السبّاقون دائماً فی هذا المجال، کما أننا نشاهد هذا النموذج فی سیرة الإمام الرضا(ع) و فی وجوده الملیء بالرحمة حیث کان تعامله مع الآخرین و حتی مع الخدم و الغلمان تعاملاً مبنیاً علی العدل و المساواة.
یقول رجل من أهل بلخ: لقد کان لی شرف مرافقة الإمام الرضا(ع) فی سفره إلی مرو، و عندما حان موعد الغداء دعا بمائدة له فجمع علیها موالیه من السودان. و غیرهم، فقلت: “جعلت فداک لو عزلت لهؤلاء مائدة”، فقال: “مَه! إنّ الرّب واحدٌ والأمَّ واحدةٌ والأبَ واحدٌ والجزاءُ بالأعمال”. (18)
2-التَواضُعُ مَع الخَدَم
من البدیهی أن الخدم والغلمان، والمرافقین وأمثالهم علی الرغم من أن مکانتهم الإجتماعیة أقل من غیرهم إلا أنهم یرون لأنفسهم مکانة وشخصیة خاصة، وعلی هذا یجب أن نحفظ لهم شخصیتهم وألا نمتنع عن التعامل معهم بتواضع ولین جانب. وعلینا أن نتخذ من الإمام الرضا(ع) قدوة فی تعامله مع عمال حیث کان یعاملهم بمنتهی التواضع والرفق، یقول أحد خادمی الإمام الرضا(ع): “قال لَنا أبوالحسن(ع): إن قمتُ على رؤوسِکم وأنتُم تَأکُلون فلاتقوموا حتى تَفرَغُوا، ولرُبّما دعا بعضَنا فیقال: هم یأکلون، فیقول: دَعُوهُم حتى یَفرَغُوا”. (19)
3-التَواضُعُ فی الجلوسِ مَع المُحتَاجِین
إن إحدی صفات المعصومین(ع) هی الرفق بالمحرومین حیث یتعاملون معهم بمنتهی التواضع و لین الجانب، لقد کان الإمام الرضا من أولئک المعصومین علیهم السلام الذین کانوا یعلمون شیعتهم سلوک التواضع، فقد کان الإمام الرضا(ع) یعلم شیعته أسلوب حیاة التواضع، کما کان ینتقد الأسلوب المتکبر لحکام الجور.
لقد کان الإمام الرضا(ع) کلما أراد النزول خلال مسیره إلی مرو ینزل فی المناطق التی یسکنها الفقراء ویطّلع علی مشاکل حیاتهم، وکان بقدر استطاعته یحل لهم هذه المشاکل. (20)
4-الذَهابُ إلى الحَمَّام العَام
مع أن الإمام الرضا(ع) کان یتمتع بمنزلة عظیمة و مکانة سیاسیة إلا أنه کان یذهب إلی الحمام کأی شخص عادی و یدلک ظهر الآخرین.
دخَل الرّضا(ع) الحمامَ فقال لَه بَعضُ الناس: “دَلِّکنی یا رجل! فَجَعَل یُدَلِّکُه فعَرَّفُوه فَجَعَل الرّجلُ یَعتَذِرُ مِنه وهو یَطیبُ قلبَه ویُدَلِّکُه”. (21)
5-إِحضارُ المَاء للضَّیف
من واجبات المضیف بالنسبة للضیف أن یؤمن له کل ما یحتاجه وأن یضعه بین یدیه دون تکبر، وهنا لابد أن نتعلم من الإمام الرضا(ع) فی هذا المجال، لأن منزلته الإجتماعیة علیه السلام لا تمنعه من القیام بخدمة الضیف، یقول أبو هاشم الجعفری حول ذلک:
کنت ذات یوم عند الامام الرضا(ع)، وقد کنت عطشاناً جداً، لکن هیبته علیه السلام منعتنی من أن أطلب الماء منه، لکن فجأة رأیته أحضر إبریق ماء وقال: “هذا ماء بارد خذ واشرب لیذهب عطشک”. (22)
|